الوقفات التدبرية

آية (26): * نقف على (أن) ما هذه (أن)؟ هذه أمر آخر، ليست مما قاله. (أن) هنا...

آية (26): * نقف على ﴿أن﴾ ما هذه ﴿أن﴾؟ هذه أمر آخر، ليست مما قاله. ﴿أن﴾ هنا تحتمل أن تكون مصدرية أو أن تكون مفسِّرة، تفسيرية. ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ﴾ يحتمل مصدر أن يكون معلقاً بأرسلنا. يعني أرسلناه بـ﴿ألا تعبدوا إلا الله﴾، ليس مما قاله، بما أرسله ربنا؟أرسلناه بهذا، أرسلناه بـ﴿ألا تعبدوا إلا الله﴾. يمكن أن تتعلق بأرسلناه ويمكن أن تتعلق بنذير ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أنذركم بألا تعبدوا إلا الله نذير بهذا، احتمال أن تكون متعلقة بنذير مثل (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ (26)). فيها احتمالان إما متعلقة بالإرسال يعني أرسلناه بذلك وإما متعلقة بنذير يعني أنذركم بهذا. ويحتمل أن تكون تفسيرية إما مفسِّرة لإرسال أرسلناه والرسالة هي ﴿ألا تعبدوا إلا الله﴾ والإنذار هو ﴿ألا تعبدوا إلا الله﴾، الإثنان مقصودان الرسالة والإنذار. إذن سبحانه أرسل نوحاً بعبادة الله وعدم عبادة غيره وهو بلّغهم بذلك، أرسلهم بالعبادة، ربنا أرسل نوح بالعبادة أنه يعبد وأن ينذر قومه ونوح بلغهم بذلك، الآية دلت على ما قال نوح وما أُرسل به. ماذا قال؟ ﴿إني لكم نذير مبين﴾ وماذا أُرسل به؟ ﴿ألا تعبدوا إلا الله﴾. ربنا قال في الأعراف (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ (59))، أيضاً في المؤمنون قال (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)). لاحظ التعبير ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ﴾، وفي المؤمنون الآية 32 ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ هذا ليس قولاً، أرسله بهذا. إذن هناك أمرين: الرسالة والتبليغ أرسل الرسول بهذا وبلغهم بها، إذن هناك أمران. يمكن أن يثار سؤال ما الدليل على أنه قال هذا؟ من يقول هذا هو قوله؟ من يقول هذا على إضمار القول؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) هود)؟ ما الدليل؟ هو كسر الهمزة. إذا قال ﴿إني﴾ هذا قول وإذا قال ﴿أني﴾ قطعاً ليس قولاً وإنما أرسلناه بهذا، إذا قال ﴿إن﴾ قول وإذا قال ﴿أن﴾ ليس قول. هذه الآية فيها قراءتان متواتران، الأولى ﴿إني﴾ والقراءة المتواترة ﴿أني﴾. المعنى مختلف، "أرسلنا أني" يعني أرسلناه بهذا تبلغهم بهذا، هذا الذي أرسله به ربه، ﴿إني﴾ هو بلّغهم قال ﴿إني﴾ هذا قول نوح. أما "أرسلناه أني" هذا ما أُمر به . * أي النص أصح؟ أيهما نرجح؟ لا ترجح وإنما القراءتان تدلان على أنه أُرسل بذلك وقال لهم هذا الأمر، ولذلك جاءت قراءتان متواتراتان حتى يدلنا على أنه أُرسِل بذلك وهو بلَّغ ما أرسل به. إذن ﴿إني﴾ معناه أنه قال لهم، ﴿أني﴾ معناها أُرسِل بذلك. فإذن القراءتان متواترتان تدل على أنه أُرسل بذلك وبلّغهم ما أرسل به * وقفنا أمام هذه الآية كثيراً لكن في آية مثل الأعراف قال (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)) القرآن حدد بأن سيدنا نوح قال هذا، هل هذا يختلف عن ذاك؟ ولماذا اختلف التعبير؟ تلك بداية التبليغ أنه بلّغهم، الآن هو ذكر الأمرين ذكر بمَ أُرسِل وكيف بلّغ، ذكر الجانبين جانب ما أرسل به صار تفصيل. ويمكن أن تسأل لم حذف القول كما قال في الأعراف؟ ليس فيها إشكال. هو لمَ لم يذكر القول؟ لو ذكر القول لوجب كسر همزة ﴿إنّ﴾ لا بد من ذلك قولاً واحداً، في المصحف قلنا فيها قراءتان متواترتان. إذن لو ذكر القول لوجب الكسر عندما حذف القول الآن جاز الوجهان الفتح والكسر، الكسر على إرادة القول والفتح على إرادة أنه أرسله بذلك. هذا توسع ، الآن في القراءتين دلنا على ما أرسل به وما بلّغ. لو قال تكون فقط للتبليغ فإذن هنا ذكر الأمرين. أما الإعراب إذا كانت ﴿إني﴾ قول تصير مقول القول مفعول به * وإذا لم يكن مقول القول؟ نقدره حرف جر (أرسلنا بألا) تكون على نزع الخافض، إذا كانت مصدرية يكون على نزع الخافض. * الإعراب أيضاً يختلف. كما تعلمونا دائماً أن الإعراب فرع المعنى يستحيل أن أعرب بدون أن أفهم المعنى والمراد في هذه الآية الكريمة. إذا جاءت الآية هكذا كيف أعربها؟ هل أقول هكذا كما قلت؟ إذا كانت مقدرة على مقول القول. إذا كانت ﴿إني﴾ بالكسر فهي قطعاً مقول القول وإذا كانت مفتوحة فهي مصدرية أو مفسرة, * إعراب ﴿ألا تعبدوا إلا الله﴾ هل إعراب ﴿أن﴾ هنا كما تفضلت؟ نفس الشيء * هكذا فهمنا أنه صرح بالقول ولم يصرح به في هود. هل يقول قائل لماذا يصرح هنا ولم يصرح هناك؟ أيهما صواب؟ وأيهما الذي حدث فعلاً؟ صرّح أو لم يصرّح؟ كلاهما صواب. هو ذهب من نفسه؟ لا، أُمِر بشيء معين إذن يأتي بـ ﴿أنّ﴾ * يعني إذا ذكر القول يقول إن هذا الكلام الذي أُرسل به وإذا لم يذكر القول يعني أرسل بهذه الرسالة؟ أرسلناه بهذه الرسالة بهذا الأمر وهو نفّذ أو لم ينفذ؟ نفّذ، كسر الهمزة. * ختمت الآية الكريمة بقوله تبارك وتعالى (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) هود) الملاحظ أن العذاب يكون أليماً وليس اليوم يكون أليماً، فلِمَ وصف اليوم بأنه أليم والمفروض خارج القرآن كما نفهم أن العذاب أليم وليس اليوم؟ هذا تعبير مجازي، اليوم لا يكون أليماً وإنما ما يقع فيه من العذاب، نهارك صائم أو ليلك قائم عند العرب هذا موجود ويسمى هذا مجاز عقلي. * ما معنى مجاز عقلي؟ عقلاً تفهم أنه لا يمكن، نهارك صائم، كيف يمكن أن يكون نهارك صائم؟! ليلك قائم تعني أن تقوم فيه، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (33) سبأ) يمكر في الليل والنهار، هذا مجاز عقلي. يبقى لماذا؟ هذا يدلنا على اتساع الألم وشدته بحيث الوقوع في ذلك اليوم على سبيل الاستغراق، استغراق اليوم، شمول. لو كانت كما قلت "أخاف عليكم عذاباً أليماً" يحتمل أن يكون في وقت من أوقات اليوم لكن إذا قال يوم سيشمل مدار اليوم. إذن عذاب يوم أليم صار اليوم كله عذاب، صار أشمل بخلاف ما لو قال عذاباً أليماً. ليس فقط في الوقت بل فيمن يقع عليه العذاب. لو لم يذكر اليوم، إذا ذكر اليوم سيكون خاصاً بالمجموع على طوال اليوم، لكن لو لم يذكر اليوم قد يكون مقيداً على فترة معينة أو مقيداً بأشخاص (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) يوسف) هذا محدد بشخص وهو يوسف. لكن هذا يوم أليم وشامل للمجموع، أولاً متسع ليس فيه وقت محدد. * يعني ليس في هذا اليوم الأليم قوم نوح فقط ربما يكون معهم أقوام آخرين! هكذا عامة. اليوم أعم. ولذلك في القرآن لم يصف اليوم بأنه أليم أو عظيم أو محيط إلا في سياق العذاب ﴿عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ (عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) هود) لم يرد في الدخول في الجنة يوم محيط. * مع أنه هناك نعيم للكل؟ لا، ليس للكل. يوم عظيم أو يوم كبير أو يوم محيط لم ترد في القرآن إلا في العذاب ولم ترد في الدخول إلى الجنة، لماذا؟ لأن هذا اليوم عظيم يشمل جميع الخلق ويوم القيامة يشمل الجميع (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) الإنسان) الذي قال هذا مؤمنون، هذا عام لجميع الخلق، الجنة ليست لعموم الخلق هذا أشمل، يوم القيامة شامل محيط للجميع عام للجميع لكن الجنة ليست للجميع وإنما مخصصة ولذلك لا تجد في القرآن يوم عظيم أو يوم محيط في الجنة أبداً وإنما فقط في سياق العذاب * أما الجنة فهي مخصصة لمن فاز فيها، اللهم اجعلنا منهم. وتقولون العربية سهلة؟! العربية سهلة القواعد العامة للنطق سهلة. * لكن ما تفضلت به من ملاحظات تحتاج إلى علم وفير! هذا أمر آخر ليس للكلام، ليس لصحة الكلام وإنما لفهم النصوص الأدبية العالية، هذا أمر آخر.

ﵟ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﵞ سورة هود - 26


Icon