الوقفات التدبرية

*قال تعالى فى سورة يس (إن يردن الرحمن بضر) وقال في الزمر (إن أرادني...

*قال تعالى فى سورة يس ﴿إن يردن الرحمن بضر﴾ وقال في الزمر ﴿إن أرادني الله﴾ فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي فى الزمر واختيار صيغة المضارع فى يس؟ وذكر المريد بإسم الرحمن فى الحديد وذكر المريد بإسم الله فى الزمر؟ نقول أما الماضي والمستقبل فإن ﴿إنْ﴾ في الشرط تصير الماضي مستقبلاً وذلك لأن المذكور ههنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله ﴿أأتخذ﴾ وقوله ﴿ومالي لا أعبد﴾ والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله ﴿أفرأيتم﴾ وكذلك في قوله تعالى ﴿وإن يمسسك الله بضر﴾ لكون المتقدم عليه مذكوراً بصيغة المستقبل وهو قوله ﴿من يُصرف عنه﴾ وقوله ﴿إني أخاف إن عصيت﴾ والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بضر يصيبه من آلهتهم فكأنه قال: صدر منكم التخويف وهذا ما سبق منكم. وههنا ابتدأ كلام صدر من المؤمن للتقرير والجواب ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران". والذي يترجح عندنا أن الفعل المضارع مع الشرط كثيراً ما يفيد افتراض تكرر الحدث بخلاف الفعل الماضي فإنه كثيراً ما يفيد افتراض وقوع الحدث مرة كما قال تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها (93) النساء) وقال (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة (92) النساء) فجاء مع القتل المتعمد بالفعل المضارع لأنه يفترض فيه تكرر الحدث إذ كلما سنحت للقاتل فرصة قتل مؤمناً بخلاف قتل الخطأ فإنه لا يفترض تكرره. لم قال تعالى فى سورة يس ﴿إن يردن الرحمن بضر﴾ فأسند الإرادة إلى الرحمن وقال في الزمر ﴿إن أرادني الله بضر﴾ فأسند الإرادة إلى الله؟ • إن القائل في سورة يس يتوقع وقوع الضرر عليه وتطاوله فذكر إسم الرحمن كأنه يلوذ به ويعتصم وهو بمثابة سؤاله الرحمة بخلاف ما في الزمر فإنه ليس الأمر كذلك ولا يتوقع نحو هذا. هذا من ناحية . • ومن ناحية أخرى أنه حسن ذكر إسم الرحمن مع الشفاعة في سورة يس فقال (إن يردن الرحمن بضر فى تغن عني شفاعتهم شيئاً) لأن الشفيع إنما يستدر رحمة من يشفع عنده والمتصف بالرحمة قد يقبل شفاعة من ليس له جاه كبير عنده أما هؤلاء الآلهة فلا تنفع شفاعتهم حتى مع الرحمن إذ ليس لهم جاه البتة وهذا أبلغ في إسقاط وجاهة هؤلاء. • ثم من ناحية ثالثة أنه ورد إسم الرحمن في سورة يس أربع مرات ولم يرد في سورة الزمر ولا مرة واحدة وورد إسم الله في سورة الزمر تسعاً وخمسين مرة وورد في سورة يس ثلاث مرات فقط فناسب ذكر إسم الله في الزمر والرحمن في يس. قال تعالى في يس ﴿لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون﴾ فاستعمل ضمير الذكور العقلاء في ﴿شفاعتهم﴾ وفي ﴿ينقذون﴾. وقال في سورة الزمر ﴿هل هن كاشفات ضره﴾ و ﴿هل هن ممسكات رحمته﴾ بضمير الإناث فما الفرق؟ والجواب أن ضمير الإناث يستعمل للإناث ويستعمل لجمع غير العاقل مذكراً كان أو مؤنثاً فتقول الجبال هن شاهقات والجبال جمع جبل وهو مذكر غير عاقل غير أننا نستعمل له ضمير الإناث. قال تعالى (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج (197) البقرة). فقال في الأشهر ﴿فيهن﴾ والأشهر جمع شهر والشهر مذكر غير عاقل فاستعمل له ضمير الإناث. فضمير الإناث يستعمل للإناث ولجمع غير العاقل مطلقاً. وكذلك جمع المؤنث السالم فإنه يستعمل جمعاً للمؤنث بشروطه ويستعمل أيضاً لجمع المذكر غير العاقل إسماً أو وصفاً نحو جبال شاهقات وشاهقات وصف لمذكر غير عاقل وأنهار جاريات وجاريات وصف لأنهار مفردها نهر وهو مذكر غير عاقل. والإسم المذكر غير العاقل قد يجمع وجمع مؤنث سالماً إذا لم يسمع له جمع تكسير نحو حمّامات جمع حمام واصطبلات جمع اصطبل. وأما ضمير جماعة الذكور نحو ﴿هم﴾ و(الواو) في نحو ﴿يمشون﴾ فهو خاص بجماعة الذكور العقلاء أو ما نزل منزلتهم. وبعد بيان هذا الأمر نعود إلى الآيتين: قال تعالى في الزمر ﴿قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون﴾ ومن النظر في هذه الآية يتضح ما يأتي: 1. قال ﴿قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله﴾ فجعل آلهتهم لا تعقل وذلك أنه استعمل لها ﴿ما﴾ فقال ﴿ما تدعون﴾ و﴿ما﴾ تستعمل في العربية لذات ما لا يعقل. 2. جاء بضمير الإناث ﴿هن﴾ فقال ﴿هل هن﴾ وهذا الضمير إما أن يكون للإناث أو يستعمل لجمع غير العاقل مذكراً أو مؤنثاً كما ذكرت فجعلهم غير عقلاء وهو متناسب مع ﴿ما﴾ التي هي لغير العاقل. 3. جاء بجمع المؤنث السالم وهو كما ذكرنا إما أن يكون للإناث أو لصفات الذكور غير العقلاء فجعلهم غير عقلاء. 4. هذه الآية نزلت في المجتمع الجاهلي والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى فيهم (إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريدا (117) النساء) فذكر أن ما يدعون من دون الله إنما هي إناث وقد روي عن الحسن "أنه كان لكل حيّ من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان... وقيل كان في كل صنم شيطانة". "وقيل كانوا يقولون في أصنامهم هي بنات الله" وكانوا يسمون كثيراً منها باسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة فناسب التأنيث من كل جهة، من جهة أنها غير عاقلة ومن جهة أن لها أسماء مؤنثة أو يرون أنها إناث. وقال في يس ﴿إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون﴾ فاستعمل ضمير العقلاء ذلك لأنه قال ﴿لا تغن عني شفاعتهم﴾ والشفيع لا بد أن يكون عاقلاً وإلا فكيف يشفع؟ ولذلك قال في الزمر (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون (43)) فجاء بضمير جماعة الذكور للدلالة على أنه لا يكون الشفيع إلا عاقلاً. ثم نفى الشفاعة مع عدم العقل فقال ﴿قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون﴾ فاستعمل ضمير العقلاء مع الشفاعة. ثم قال ﴿ولا ينقذون﴾ والمنقذ لا بد أن يكون عاقلاً أيضاً وإلا فكيف ينقذ؟ ولذلك قال في سورة يس (واتخذوا من دون آلهة لعلهم ينصرون* لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) فاستعمل ضمير جماعة العقلاء وهو قوله ﴿لا يستطيعون﴾ و ﴿هم﴾ لأن الناصر لا بد أن يكون عاقلاً وهو كالمنقذ. وهذه الاية نظيرة الآية السابقة فناسب كل ضمير مكانه اللائق به. * لكن في الزمر مع تكملة الآية (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ (38)) يذكر الرحمة لكن الرحمة غير مذكورة في آية يس؟ أولاً صاحب يس لم يكن يتوقع غير الضر هذا واحد، لم يكن يتوقع من أصحاب القرية رحمة. لكن الأمر الآخر من هو الرحمن؟ أليس الذي يرحم؟ فهو عندما ذكر إسم الرحمن هو أغنى عن الرحمة. ﴿إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرّ﴾ الرحمة سيكون ذكرها لكن بشكل آخر. الرحمن من الرحمة فذكر الأمرين في لفظ واحد، أما هناك فذكرها بطريقة أخرى ذكر أمرين ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ ذكر أمرين هذا من الله، وصف الجلالة الله ليس فيه وصف فذكر الأمرين وفي آية سورة يس ذكرهما بلفظ واحد فقال ﴿الرحمن﴾ حتى لا يصير هنالك تكرار. * في قوله تعالى (إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23)) (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الزمر). لماذا دخول الباء على ﴿ضُر﴾ أو ﴿رحمة﴾ كما قال في غيرما موضع (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً (17) الأحزاب)؟ (د.فاضل السامرائى) قال سبحانه في الآية (إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23)) فعلاً كان ممكن تعبير آخر ورد في القرآن وفي اللغة كان يمكن أن يقول مثلاً "إن يُرد الرحمن بي ضُراً" وقد ورد مثل هذا التعبير في القرآن (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) كان ممن أن يقول: إن أرادكم بسوء أو أرادكم برحمة. الملاحظ في القرآن الكريم في مثل هذا التعبير أن ما تتصل به الباء، ما يدخل عليه الباء هو الذي عليه السياق وهو مدار الكلام وهو الأهم في السياق. نلاحظ في سورة الفتح (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)) أدخل الباء على ضمير المخاطبين نلاحظ الكلام والسياق يدل عليهم (11)- (16). (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) الأنبياء) ﴿به﴾ على سيدنا إبراهيم والكلام في أكثر من عشرين آية على سيدنا إبراهيم. في حين قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الزمر) الكلام عن الضر. (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الزمر) أدخل الباء على الرحمة لأن السياق في هذا الأمر. في آية أخرى (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) يونس) ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ﴾ دخلت الباء على الضُرّ ﴿فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ على الضُرّ، ﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ دخلت الباء على الخير ﴿فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾. لاحظ أين تدخل الباء؟ على من عليه مدار الكلام والسياق والأهمّ. نلاحظ الآية التي نحن الآن بصددها في سورة يس (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)) لا يدفعوا الضر، إذن هم لا يستطيعون أن ينجوه من الضُرّ فدخلت الباء عليه ﴿بضُرّ﴾. هذا هو التعبير في القرآن الكريم حيث أدخل الباء يكون هو مدار الاهتمام والسياق عليه. اللغة العربية تجري الأمرين لكن يبقى الاختيار البلاغي، يلصق الباء حيث يقتضي السياق. هو اهتمام، حيثما أدخل الباء وهذه الباء للإلصاق يلصق الباء بما هو الأهم في السياق.

ﵟ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﵞ سورة الزمر - 38


Icon