الوقفات التدبرية

آية (8): * في أكثر من موضع في القرآن الكريم وربنا تبارك وتعالى يوصينا...

آية (8): * في أكثر من موضع في القرآن الكريم وربنا تبارك وتعالى يوصينا بالوالدين (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(23)الإسراء)،ونقرأ في موضع آخر (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا(8)العنكبوت)، ومرة يقول (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (14)لقمان) كيف نفسر هذه الاختلافات بين الآيات الكريمات واللمسة البيانية الموجودة في كل آية؟مع أن الكل يدور حول توصيات الإنسان بوالديه؟ د.فاضل السامرائى: هنا قال ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وليس إلى الوالدين: الأصل في الإحسان أن يكون ب﴿إلى﴾ ، يبقى سبب المجيء بالباء: طبعاً فيها أكثر من تخريج نحوى وطبعاً ينسحب عليه البيانى، الإحسان إلى عامة أما الإحسان بهما أى إلصاق الإحسان بهما ، مثل كتبت بالقلم ، تعود إلى الالتصاق سواء بالاستعانة أو غير الاستعانة . يعنى ألصق إحسانك بهما وليس مجرد الإحسان من بعيد- لا يفى بالغرض، وقسم جعل معناها اللطف أى ألطف بهما، هذا تضمين لفظى، كقول يوسف (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ(100)يوسف) معناها هنا اللطف فالله أحسن إلى الناس جميعاً لكن هذا إحسان خاص . *هل التضمين إشراب فعل دلالة فعل آخر؟ نعم. هو دلنا على إما اللطف أو إلصاق الإحسان بهما. وكلاهما معنى يؤدى إلى زيادة الإحسان إليهما. أيهما يؤدى الدلالة نفسها. قد يكون نوع من التوسع. نأتى إلى إختيار الوالدين ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ وليس بالأبوين: أصل الوالد من الولادة . الأصل أن المرأة التى تلد وليس الرجل ولكنه تغليب، ولذلك الرجل يقال عنه أبّ، ولكن العرب غلّبت وقالت والد ووالدة ، كما أن الأبوين تغليب للأبّ وليس للأم . وتأتى بالغالب مذكر الوالدان مثل القمران أى الشمس والقمر، فالوالدين تغليب للأم والأبوين تغليب للأبّ، وفى الآية ذكر الوالدين وفي القرآن كله لم يأتى البرّ بهما أو الدعاء لهما إلا بلفظ الوالدين، لم يرد بلفظ الأبوين ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(36)النساء) ﴿(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ لو يرد مرة بأبويه (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ(28)نوح) لم يأتى الدعاء لهما أو البر بهما إلا بلفظ الوالدين إلماح إلى الولادة وفي ذلك إلماح إلى أن الأم أحق وأولى بحسن الصحبة ، لكن الأب يأتى في مواضع أخرى كالمواريث لأن نصيبه أكبر (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ(11)النساء) لأن نصيب الأب أكبر من نصيب الأم. *هل في هذا دلالة في سورة يوسف (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ(4)يوسف ليس لوالده مثلاً؟ هل لهذا دليل في مفاهيم اللغة العربية؟ لا ليس بالضرورة فليس هنا في مقام تغليب هو أخبره بذلك ، خاصة أن الكلام كله يدور بين يوسف وأبيه ولم تذكر الأم أصلاً في جميع القصة ولا في الحديث من أوله إلى آخره . إذا قارنّا بين الآية ومثيلاتها: إحدى هذه الآيات فى سورة لقمان (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (14)) والأخرى فى العنكبوت (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا(8)) وفى الأحقاف (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا(15)) ، فى لقمان ما قال إحسانا ولا حسنا ولكن قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا(15)) لم يقلها فى الموضعين الآخرين ، المقام فى لقمان فى المصاحبة والمعاشرة بين الناس (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)) مصاحبة الأب لابنه والابن لأبويه ومصاحبته للآخرين ،والوصية كيف يعامل أبويه وكيف يعامل الناس (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ(19)) آداب ووصايا فى أصول المصاحبة ، وهذا لم يذكر في العنكبوت ولا في الأحقاف. ثم قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا(15)) ولو يقل بمعروف أصلاً مثل آيات الطلاق بمعروف أو بالمعروف. *ما موقع ﴿مَعْرُوفًا﴾ من الإعراب؟ يمكن أن يكون تمييز أو حال أو مفعول مطلق هذا وسط فى المفعول المطلق أى صاحبهما صحابا معروفا أو حالا معروفا. ولم يقل بالمعروف لأنه أراد أن تكون المصاحبة هى المعروف بعينه وليست بالمعروف . *لكن حضرتك ذكرت منذ قليل أن هناك الصاق فهل لو قال بمعروف هنالك إلصاق؟ نعم مثل (أمسكوهنّ بالمعروف)(سرحوهنّ بالمعروف) لكن هذه ليس بمعروف وإنما هى المعروف بعينه يعنى الرجل قد ينهر زوجته أو يعضلها أو يضربها ولا يمكن أن يفعل هذا مع الأبوين ولهذا لم يقل بمعروف وإنما هو المعروف بعينه. وأيضاً هو لم يكتفى بالمصاحبة فقط وإنما قال ﴿في الدنيا﴾ فالمصاحبة لها قواعد. يبقى الفرق بين إحساناً وحسناً: لاحظ في آية لقمان اشترط على أن أبواه يجاهدانه على الشرك (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي(15)) لكن فى الأحقاف الوالدان مؤمنان (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ(17)). وفى لقمان قال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (14)) ولم يذكر الوضع . أما في الأحقاف ذكر الحالتين (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا(15)) ، والجزاء على قدر المشقة لذكر آلام الحمل وآلام الوضع، إضافة إلى أنه قال (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ(15)) ، (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ(17)) فهما مؤمنان. فهو ذكر هنا أنهما مؤمنان وذكر آلام الحمل والوضع ، أما الأخرى كانا يجاهدانه على الشرك. *ما الفرق بين الإحسان والحسن؟ الإحسان أحسن من الحسن فالإحسان أن يتعدى خيرك إلى الآخرين، أما الحسن فهو حسن في نفسه. هناك فرق بين أن تعامل شخصاً معاملة حسنة وأن تحسن إليه، يعنى الكلام الطيب الكلام الحسن تفضل استرح هذا حسن ، أما الإحسان أن تفعل له، فالإحسان أمكن وأقوى من الحسن فهو معاملة حسنة وزيادة. في العنكبوت أقل. هما كافران (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي(8)) قال حسناً ولكن هنا أأخف مما في لقمان(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي(15)) ففيه حمل وشدة واشتراط، مثلاً: إذا قلت لك زوّجتك ابنتى لتعيننى هذا تعليل فقط لغرض أن تعيننى، أما إذا قلت على أن تعيننى هذا أقوى هذا اشتراط مثل قوله تعالى (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ(27)القصص). فالمجاهدة في العنكبوت أقل منها في لقمان فصار حسناً وليس فيها مصاحبة بالمعروف ولكن فيها حسن، ولم يذكر أصلاً آلام الحمل أو الوضع كما في الأحقاف. *قد يسأل سائل: ماذا قال ربنا تحديداً في وصيته لابن آدم بوالديه، إحساناً أم حسناً؟ كلها في سياقها، فالكافر الذي يجاهدك صاحبه فى الدنيا معروفاً، ومن أقل منه تحسن إليه وإن كان كافراً ﴿حسناً﴾ والمؤمن ﴿إحساناً﴾ . هى درجات، والمعروف يجمع كل هذا فليس هناك تناقض. مرة يقول تعالى ﴿وقضى﴾ ومرة يقول ﴿ووصّينا﴾ ما الفرق ؟ هو قضى ووصّى معاً. ولاحظ أنه قال وصّينا بالتشديد وليس أوصينا للتشديد على الوصية. *من باب أولى مادام قضى فقد وصّى فلمَ لم يكتفى بالقضاء ﴿وقضى﴾ دون ﴿ووصّينا﴾ بما أنها أقوى؟ الوصية لها دلالة والقضاء له دلالة، فأنت توصي ابنك بكذا وكذا (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ (132)البقرة) أما القضاء فهذا أمر الله. *هل الفرق بين حسناً وإحساناً من قبيل الزيادة فى المبنى تدل على الزيادة في المعنى؟ وإن كان كذلك نود بعض الأمثلة من آي القرآن الكريم وكيف نفهم هذه الصياغة من الناحية البيانية والبلاغية؟ هذا الأمر موجود فى اللغة أن الزيادة فى المبنى زيادة فى المعنى لكن ليس مضطرداً وليست قاعدة مضطردة، هو فعلاً موجود وفيها مبالغة مثل كسر وكسّر صار فيها مبالغة، جهد واجتهد، قطع وقطَّع، علّام وعلّامة هذه التاء زادت المعنى هذا ممكن ، ليس دائماً عندنا حاذر وحذر ، حذِر أبلغ من حاذر وهى صيغة مبالغة أقل فى المبنى ، عالم وعليم نفس الحروف لكن واحد على وزن فاعل والأخرى فعيل صيغة مبالغة فالمشتقات ليست لها دلالة واحدة، والِه وولِه، غاضب وغضوب، نفس عدد الحروف لكن واحد اسم فاعل وواحد صيغة مبالغة من أكبر صيغ المبالغة فعول ، غضبان وغضوب غضبان عدد حروفها أكثر وهى صفة مشبَّهة بينما غضوب صيغة مبالغة، والحقيقة الأرجح أن يقال أن اختلاف المبنى يدل على اختلاف المعنى وليست زيادة المعنى ليس بالضرورة زيادة المعنى.

ﵟ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﵞ سورة العنكبوت - 8


Icon