آية (29): ختام السورة
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29))
*فكرة عامة :
لما نزلت الآية (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) القصص) قال أهل الكتاب هذا لنا خاصة ربنا يؤتينا أجرنا مرتين لأنه ناداهم الذين آتيناهم الكتاب. ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ قال أهل الكتاب هذه لنا. ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ الذين أسلموا من أهل الكتاب كانوا يفخرون على المسلمين أن الله تعالى قال أن الذي يسلم منهم له أجرهم مرتين وأنتم تأخذون أجركم مرة واحدة فحزن المسلمون فأنزل ربنا تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ وفي الاية السابقة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فإذن هذا عام ﴿لئلا يعلم﴾ حتى يعلم أن أهل الكتاب أن فضل الله ورحمته ليس محصوراً بهم.
دلالة ﴿لئلا﴾ هي ليعلم وهذه اللام قسم من النحاة يقولون هي زائدة أصلها لأن لا واللام زائدة، ﴿لئلا﴾ اي ليعلم أهل الكتاب وهذه تزاد إذا كان اللبس مأمون والمعنى متضح وقسم من النحاة يسمونها صلة ويسمون كل الحروف الزائدة صلة هذه الحروف لو أسقطتها يبقى المعنى مستقيماً لكن يبقى التوكيد. ما معنى الزائدة؟ أي لو أسقطتها بقي المعنى مستقيماً (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) فصلت) لو أسقطتها المعنى يبقى مستقيماً لكنها أفادت التوكيد، هذا معنى الزائدة، (إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ (62) آل عمران) أي ما إله إلا الله إذن لا حروف زائدة في القرآن وإنما هي تفيد التوكيد. هو مصطلح وقسم سموها صِلة ويتجنبون كلمة الزيادة وقسم قالوا نسميها زائدة لكن نقول هي مزيدة للتوكيد وتزاد بشرط أن يكون اللبس مأموناً والمعنى متضحاً. وهذه ليست الوحيدة في القرآن قال تعالى (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ (93) طه) ويقول تعالى لإبليس (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ (75) ص) وفي آية أخرى (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (12) الأعراف). ﴿ألا﴾ بمعنى أن واللام مزيدة للتوكيد لو أسقطتها يبقى المعنى وهذه لا تزاد إلا إذا كان اللبس مأموناً والمعنى متضحاً ليس فيه شك. إبليس لم يسجد ونعلم أن المعنى متضح. (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)) حتى يعلم وفيها توكيد المسألة، لا يقدرون على فضل الله وإنما لا يقدرون على شيء من فضل الله ربنا قدر أنه يؤتيكم كفلين من رحمته لكل من آمن برسوله واتقى حتى لا يفخر أهل الكتاب أنه يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء..
*ختمت الآية في سورة الحديد بالتعريف ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وفي آل عمران (وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) آل عمران) فما الفرق؟
في آل عمران في أُحد وفي نجاتهم مما كان يراد بهم (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)) هذا أكبر أو النور والرحمة والمغفرة؟ انقلبوا لم يمسسهم سوء، المغفرة والرحمة والنور أكبر لذا قال ذو الفضل العظيم.أما لو مسهم سوء لهم أجر. أما كفلين من رحمته ويغفر لكم ويجعل لكم نوراً هذه أكبر إذن والله ذو الفضل العظيم. التعريف يفيد العموم والشمول والتنكير يفيد التقليل.
*بعض الملامح البيانية والبلاغية في سورة الحديد:
نذكر قسماً من الملامح في خاتمة الكلام على سورة الحديد:
- بدأت السورة بالتسبيح لله سبحانه وتعالى ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هذه فيها إشارة إلى أن نكون مع المسبحين لله لأنه في خاتمة سورة الواقعة قال (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)) كأنها إشارة أن نكون مع المسبحين لله مع كل ما في السموات والأرض.
- وكل السور التي تبدأ بالتسبيح يكون فيها العزيز الحكيم هذان الإسمان الكريمان أو شبيهان بهما إما في الآية أو في السورة، كل سورة تبدأ بالتسبيح إما يقول العزيز الحكيم أو نحو هذا أو السورة لا تخلو من هذين الإسمين العزيز الحكيم إلا آية واحدة في السورة ختمت بقوله تعالى (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) التغابن) وختم السورة بقوله (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) التغابن)، لماذا؟ أولاً التسبيح هو التنزيه عن كل نقص والتقص يظهر عادة إذا شخص ليس عنده مسؤولية لا يظهر عليه نقص لكن إذا كان حاكماً أو عزيزاً أو حاكماً يظهر عليه نقص إذا كان عزيزاً وانتهت عزته إلى الحكم فالعزة تسبق الحكم أو الحكمة فإذن ربنا سبحانه وتعالى في هذين الأمرين الذين يظهر فيهما العيب على الآخرين هو ينزه عن كل نقص في عزته وحكمه وحكمته ولذلك كل السور التي تبدأ بالتسبيح الآية نفسها يقول ﴿العزيز الحكيم﴾ أو ما في هذا المعنى وهو آية واحدة ﴿له الملك﴾ وهذه عزة ومنتهى العزة أن يكون له الملك إذن له الملك في معنى من المعاني هو العزيز الحكيم له الملك ﴿وله الحمد﴾ من الحكمة فإذن تصبح بمعنى العزيز الحكيم وقد أنهى السورة بقوله تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) التغابن). هذا أمر.
- والأمر الآخر في السورة أنه ذكر في هذه السورة من صفات الله ما لم يذكر في موضع آخر في القرآن (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)) هذه الصفات لم ترد في موطن آخر وهذه من الأمور الخاصة بالسورة.
- أمر أكثر من مرة بالإيمان بالله والرسول وبالإنفاق وهذه تطبع السورة عموماً وليست أركان الإيمان عموماً وإنما الإيمان بالله والرسول دون الإيمان بالأمور الأخرى (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (7)) (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ (8)) (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ (19)) ونسأل لماذا؟ طالما آمن بالله ورسوله ستأتي بقية الأركان تباعاً. وذكر الإنفاق خصوصاً ولم يذكر عموم العمل الصالح (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (10)) لم يذكر عموم العمل الصالح وفي الإيمان ذكر الإيمان بالله والرسول وفي العمل ذكر الإنفاق وذكر القتال لكن لم يحض عليه (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا (10)).
- ثم ذكر النساء والرجال (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (12)) (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ (13)) (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ (18)) ثم ذكر من مشاهد القيامة مشهد لم يذكر في مكان آخر.
- ومسألة المنافقين والسور والمحاورة بين المنافقين والمؤمنين (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)) ذكر يوم القيامة (يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم (12)) ذكرت فى سورة التحريم لكن ليست بالصورة التي ذكرها في سورة الحديد من السور والمحاورة والنور.
- وبعد أن ذكر ما ذكر من مشاهد الآخرة وصفات الله وقدرته أهاب بالمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (16)) .
- وبين لنا أمراً من أمور الحياة في غاية الأهمية وهي أن الحق لا يقوم بنفسه وإنما يحتاج إلى قوة تنفيذية (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (25)) .
- وذكر في السورة تفضله على عباده في أكثر من مرة ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ حتى في الجنة ذكر (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)) ولم يذكر عملاً وهذا من تفضله عليهم وختمها ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وذكر أن المؤمنين يؤتهم كفلين من رحمته وهذا من الفضل العظيم الذي تفضل به على عباده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)) .
- ثم ذكر الإنفاق وحده وإذا ذكر الإنفاق وحده يقول له أجر كريم وإذا ذكر الإيمان والإنفاق يقول له أجر كبير باعتبار اتسعت الدائرة وكبرت فيقول له أجر كبير. هذه ملامح سورة الحديد.
ﵟ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﵞ سورة الحديد - 29