الوقفات التدبرية

.(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن...

.(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)) فكرة عامة عن الآية: ذكر أمور إيلاج الليل في النهار وصفات ربنا تعالى وما ذكر من إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر وما إلى ذلك هذا كله سبب أن الله هو الحق الموجد الأول الذي أوجد هذا الكون. ﴿ذلك﴾ تعود على ما ذكر سابقاً، كيف حصلت؟ لأن الله الموجد الأول هو الذي فعّل ذلك هو الحق، وما يدعون من دونه الباطل لأنه لا يمكن أن تصنع مثل ذلك وما أمر به ونهى عنه هو الحق لأن ربنا لما كان هو الحق المبين فما فعله هو الحق ليس الباطل وما أمر به هو الحق وكل أوامره ونواهيه لازمة بسبب أنه الحق، فهو الحق تعليل لكل أفعاله وصفاته وتعليل للزوم طاعته سبحانه لأنه الحق والإنسان ينبغي أن يطيع ما هو حق والله هو الحق أوامره هي الحق ينبغي أن يُطاع، صفاته هي الحق ينبغي أن يُعبَد، الله هو الحق ينبغي أن يُعبد. اختيار كلمة الحق تحديداً كل هذا التسخير معناه أن الله هو الحقيقة الوحيدة الموجودة في الكون المستحقة للعبادة وليس ما يدعون من دونه أصنام وتماثيل التي هي الباطل بعينه والله هو الحق وحده وليس هناك حق بمنزلة هذا الحق، الباقي حق بما خلقه ربنا الجنة حق والنار حق كون ربنا خلقها وأوجدها وهو الحق فهي حق. * كيف نفهم تعريف الحق والباطل في الآية؟ فرق بين أن تقول هو حق فيكون من جملة ما هو حق أنت قلت هذا تلفاز فهو حق وهذا وهذا قدح وهو حق، هو حق لكن ليس هو الحق، الحق الأول الموجب لجميع الأشياء والذي أفاض على كل الأشياء الموجودة بالوجود، هي حق لأن الحق الأول أوجدها والأرض حق والسموات حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق وهذه مخلوقات لله تعالى وهي حق لأن الحق الأول هو الذي أوجدها لو لم يكن الحق الأول موجود لما وُجِد شيئ ولهذا تفرّد سبحانه وتعالى بالحق بالتعريف أنه هو الحق المطلق الواحد بهذا المعنى لا يتعداه. وأن ما يدعون من دونه من آلهة هو الباطل. الباطل بالتنكير على العموم والشمول لأنها بمقابل الحق سبحانه وتعالى ليست أن تقول هذه شجرة، هذا حيوان وهذا باطل، ليست بمنزلتها ولكن هذا جعل لله نداً وهو أعلى من منزلة الله ﴿يدعون من دونه﴾ هذا أكبر من الشرك فالشرك أن تجعل لله نداً كفار قريش مشركين لكن قالوا ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ أما هؤلاء يعبدون من دونه يعني جعلوا الله تعالى جانباً (من دونه لا تعني أقل منه، من دونه غير ممن هو دونه) هم لا يعبدون الله أصلاً يعبدون من دونه أي ينحّون الله جانباً جعلوه بإزاء الله سبحانه وتعالى هذا هو الباطل بعينه ولو قال باطل لكان من جملة ما هو باطن فأراد تعالى أن يفخم فعلتهم هذه فقال الباطل العبادة أعلى شيء لأنها الغاية من خلق المكلّفين (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات). يدعون من دونه ويعبدون من دونه فهذه ليست مسألة جزئية، هذه مراعاة حالة محددة عند أناس كفروا بالله تعالى. ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ قال ما يدعون ولم يقل من يدعون إظهاراً لجهلهم وسوء معتقدهم لأن ﴿ما﴾ لغير العاقل لأنهم يدعون غير عاقل ويتخذونه إلهاً. *في هذه الآية قال تعالى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ في آية الحج قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)) بضمير الفصل ﴿هو﴾ فلماذا هذا الفرق؟ لا شك أن هو الباطل أقوى لأن ضمير الفصل يفيد التوكيد الحصر والسياق يوضح سبب اختيار كل تعبير. في سورة الحج الصراع مع أهل الباطل، أهل الباطل متمكنون يشردون المؤمنين ويقتلونهم (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)) ثم قال (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)) إذن أصحاب الباطل يقتلون المؤمنين ويجبرونهم على ترك ديارهم ويهاجرون في سبيل الله إذن هم متمكنون ولا تجد مثل هذا في لقمان، فلما كانوا كذلك بهذه القوة ووهذا التسلط فأكد الله تعالى بطلانهم ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ لا يغرنكم ما ترونه من تسلطهم وقوتهم فإذن هذا هو الباطل بعينه بإزاء قوة الله تعالى. في لقمان ليس فيها هذا الشيء، قال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) كلها فيها أخذ ورد وسؤال وجواب ليس فيها صورة الباطل المتمكن الذي يعاند المعاجز المعاند الذي يقتل المؤمنين ويضطرهم إلى الهجرة فاحتاج الأمر إلى زيادة تثبيت للمؤمنين وعدم افتتانهم بسلطة أصحاب الباطل ولا شك أن للسلطان فتنة ورهبة فاقتضى السياق أن هؤلاء عليه هو الباطل وتوكيد ذلك هذا أمر وهو الأمر الأول وهو أن أصحاب الباطل في آية الحج هم متمكنون متسلطون معاجزون معاندون يفتنون المؤمنين إذن احتاج إلى تثبيت المؤمنين في هذه الناحية فأكد أن ما عليه هؤلاء هو الباطل. هذا أمر وسبب آخر أنه تقدم في سورة الحج ذكر ما يدعون من دون الله من المعبودات الباطلة (يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ {71}) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)) الكلام على المعبودات الباطلة جاري في آية الحج فأكد أن هؤلاء هو الباطل وليس ذلك في لقمان. فهنالك أمران دعيا إلى التأكيد في سورة الحج أولاً قوة وتسلط أصحاب الباطل في سياق آية الحج وذكر معبوداتهم التي يعبدونها فذكر أنهم على باطل وأن معبوداتهم باطلة لا تنفع شيئاً فأكد هذا الأمر وليس في لقمان هذا السياق فلم يقتضي هذا الأمر. إذن آي القرآن الكريم تغطي كل حالة بقدرها وكل تعبير مناسب لما ورد فيه. مع أن الآيتان تبدوان متشابهتان إلا في ضمير الفصل الذي اقتضاه السياق من أكثر من جهة السياق اقتضى تأكيد أن أهل الباطل ما يدعون من دونه هو الباطل لأنه ذكر عدة مرات ما يدعون من دون الله ولم يذكر هذا الأمر في لقمان وذكر تمكن أصحاب الباطل وقوتهم. لو قال في الحج وأن ما يدعون الباطل الآية صحيحة لكن بلاغة التعبير تكون أقل والبلاغة توزن بالميزان الدقيق لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومقتضى الحال في كل آية مختلف. والأمر الآخر أن الضمير ﴿هو﴾ من الناحية اللفظية في سمة التعبير ورد في سورة الحج 13 مرة وفي لقمان ورد 7 مرات فقط لأن السمة التعبيرية في السياق لها أثرها أيضاً فكأنما ورد في سورة الحج ضعف ما ورد في سورة لقمان. وضمير الفصل أصلاً ذكر في الحج 8 مرات وفي لقمان 3 مرات. إذن فمن كل النواحي السمة التعبيرية أو البلاغية أو غيرها ذكر ﴿هو﴾ في آية سورة الحج أكثر مما يقتضيه في سورة لقمان. * ختمت الآية (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)) ماذا عن هذه الفاصلة؟ جاء بضمير الفصل في الآيتين وعرف العلي الكبير، والعلي هو القاهر الذي ليس فوقه شيء (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) الأنعام) والكبير السلطان العظيم الشأن. إذن بعد أن وصف ربنا تعالى نفسه بأنه هو الحق ووصف ما يدعون من دونه الباطل ذكر أن هذا الحق هو عالي على وجه الثبوت والدوام والحق هو العالي دائماً والباطل هو سافل مهين، الحق هو العالي فالحق هو العالي الذي يزهق الباطل وهو العالي على وجه الدوام والثبوت وظاهر وهو القاهر والباطل هو سافل مهين يزهقه الحق فالحق كبير والباطل صغير صغراً وصغاراً صغير في الحجم وصغار في الحقيقة (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ (124) الأنعام) الصغار بمعنى الذلة مهما انتفش ومهما انتفخ فهو صغير وذليل. * ألا توحي كلمة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ أنه العلي الكبير؟ وكلمة العلي ألا توحي بأنه كبير؟ الحق أحياناً يأتي في موطن الموت مثلاً (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) فصلت). الآية الكريمة أرادت أن تعلي الله تعالى وتضعه في مكانه اللائق بجلاله وعزيم سلطانه في مثل هذا السياق. (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ (39) النار) هنا الله هو الحق لكن غير هذا الحق، غير سياق. إذن حتى تعدد صفات الله وأسمائه كل إسم يضيف دلالة جديدة حسب السياق الذي يرد فيه.

ﵟ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﵞ سورة لقمان - 30


Icon