الوقفات التدبرية

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً...

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً {4}) نلاحظ فى هذه الآية أنه تعالى أكّد الإعتاد والعذاب ﴿إنا أعتدنا﴾ كما أكد الخلق والهداية سابقاً (إنا خلقنا، إنا هديناه). وهنا يأتي سؤال وهو ما الفرق بين اعتدنا وأعددنا؟ القرآن الكريم يستعمل أعتدنا وأعددنا فلماذا استخدم هنا أعتدنا؟ لأن أعتد فيها حضور وقرب والعتيد هو الحاضر ﴿هذا ما لدي عتيد﴾ أي حاضر وقوله (وأعتدت لهن متكئاً بمعنى حضّرت أما الإعداد فهو التهيئة وليس بالضرورة الحضور كما في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم) بمعنى هيّأوا وليس حضروا وقوله ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عُدّة﴾ أما في سورة النساء فقال تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {18}) لأنهم ماتوا فأصبح الحال حاضراً وليس مهيأ فقط، وكذلك ما ورد في سورة الفرقان (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً {37}) قوم نوح أُغرقوا وماتوا أصلاً فجاءت أعتدنا. أما في سورة النساء (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً {93}) هؤلاء لا يزالون أحياء وليسوا أمواتاً فجاءت أعد بمعنى هيّأ. ومما سبق نقول أنه في آية سورة الإنسان بما أن جزاء أهل الجنة بالحضور بصيغة الوقوع لا بصيغة المستقبل كذلك يقتضي أن يكون عقاب الكافرين حاضراً كما أن جزاء المؤمنين حاضر فقال تعالى في أهل الجنة (يشربون من كأس، ولقّاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا) وجاء عقاب الكافرين حاضراً بصيغة الوقوع فقال تعالى ﴿إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا﴾. أما في آخر السورة فجاءت الآية (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}‏) باستخدام ﴿أعد﴾ لأن الكلام في الآية عن أهل الدنيا وليس عن الآخرة. إضافة إلى ذلك لم يرد في القرآن الكريم كلمة أعددنا مطلقاً أي أعدّ واستعمال الضمير ﴿نا﴾ وإنما يستعمل أعتدنا وهي خصيصة من خصائص التعبير. تكلّمنا عن الفرق بين أعتد وأعدّ والآية التي قبل هذه الآية ﴿إما شاكراً وإما كفورا﴾ وفي هذه الآية قال تعالى ﴿للكافرين﴾ وهي ليست جمع كفور وإنما هي جمع كافر وكان المضمون أن يجعل الإعتاد لجمع الكفر وهي ﴿كُفُر﴾ على وزن فعول فُعُل مثل صدوق صُدُق ورسول رُسُل وهذا هو القايس. إذن لماذا قال (إما شاكراً وإنا كفورا) ثم قال ﴿إنا أعتدنا للكافرين﴾ ولم يقل ﴿أعتدنا للكُفُر﴾؟ لو قال أعتدنا للكُفُر لكان يذهب الظنّ أن العذاب يتناول المبالغ في الكفر وليس لغير المبالغ أي كأن الكافر لا يناله العذاب، لكن لمّا ذكر عقاب الكافرين غمن باب أولى أن يكون عقاب الكُفُور أكبر بمعنى أن هذا عذاب من دونه وهو الكافرين فكيف يكون عذاب الكُفُور؟ لا بد أنه أكبر وأشدّ. ﴿سلاسل وأغلالاً وسعيرا﴾هنا العذاب بالسلاسل والأغلال والسعير فلماذا ذكر هذا النوع من العذاب؟ السعير هي جهنم للكافر عموماً لماذا ذكر السلاسل والأغلال؟ ذكر تعالى أنه أطلق الحرية للإنسان ﴿إما شاكراً وإما كفورا﴾ والإختيار في الدنيا وهداه السبيل فلم يسلكها ولهذا قيّده الله تعالى في الآخرة لأنه ليس له أن يختار في الآخرة فكما أساء الإختيار في الدنيا قيّده بالسلاسل (والحرية عكس القيد) والسلاسل تُقيّد حركة الأرجل والأغلال تقيّد حركة الأعناق والأيدي كما في قوله تعالى في سورة المائدة آية 64 ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ قيّد حركته على كل حال بمقابل الحرية المطلقة التي كانت له في الدنيا.

ﵟ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﵞ سورة الإنسان - 4


Icon