الوقفات التدبرية

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ...

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)) ونلاحظ أنه تعالى قال بعدها هذه الآية وولدان جمع ولد وهم صغار السّن. فبعد وصف الآنية من الفضة ووصف السقاة وصفهم باللؤلؤ المنثور لأنهم سراع في الخدمة ومنثورين في كل مكان في حين لما أخبرنا تعالى عن الحور العين (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) الواقعة) وصفهم بأنهم لؤلؤ مكنون أي في أماكنهم مستورين مُصانين غير منثورين في كل مكان. وفي سورة الطور وصف تعالى الغلمان باللؤلؤ المكنون (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)) فما السبب في ذلك؟ أولاً الوصف باللؤلؤ المكنون له جانبان: جانب الصون والحفظ باعتباره محفوظ في الصدف، وجانب آخر جانب الصفاء لأن اللؤلؤ أصفى وأنقى وأبيض ما يكون وهو في الصدف فإذا خرج من الصدف تغير لونه وقد يصبح أسود اللون خارج الصدف. فعندما يُقال مكنون يكون المقصود هذان الجانبان. لكن يبقى السؤال لماذا جاء في سورة الطور لؤلؤ مكنون للغلمان؟ الفرق بين الآيتين أنه في آية سورة الإنسان قال تعالى (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)) لم يذكر ﴿لهم﴾ وإنما ذكر الولدان الذين يأتون بالأشياء كما يأمر الله تعالى أما في آية سورة الطور (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)) ذكر ﴿لهم﴾ بمعنى خاصّين بهم وليسوا عامّين كالذين ورد ذكرهم في آية سورة الإنسان، فأصبحوا مكنونين لأنهم أصبحوا في الأسرة والعائلة متخصصين في خدمتها. أي عائلة؟ إذا نظرنا إلى الآيات التي سبقت الآية المذكورة في الطور نجد قوله تعالى (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)) فالكلام عن الأسرة وهذه الأسرة أصبح لها خصائص كذلك قوله تعالى ﴿ويطوف عليهم غلمان لهم﴾ أي خاص بهم كأنهم لؤلؤ مكنون وسياق الآيات في سورة الطور فيه خصوصية شديدة للمؤمنين. وقال تعالى ﴿إذا رأيتهم﴾ وإذا كما نعلم في اللغة تدل على التحقيق والتيقّن وهي ليست من باب الإفتراض ولهذا لم يأت بـ ﴿إن﴾ أو ﴿لو﴾ لأن إذا كما قلنا تستخدم لتيقّن الحدث أو للدلالة على الحدث الكثير الوقوع ولهذا جاءت كل الآيات التي تتحدث عن أحداث يوم القيامة باستخدام ﴿إذا﴾ لأنها محققة الحصول . أما ﴿إن﴾ فهي تستخدم للأمر الإفتراضي كما في قوله تعالى ﴿فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض﴾ ﴿وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً﴾ و ﴿إن كان للرحمن ولد﴾ ليس موجوداُ أصلاً وإنما هو افتراض وبعيد الحصول. أما ﴿لو﴾ فتستخدم للتمني ولما هو أبعد ﴿لو أنفقت ما في الأرض جميعا﴾ وتأني في الأشياء المستحيلة وما هو أبعد من ﴿إن﴾ أصلاً. وقوله تعالى ﴿إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا﴾ تدل على تحقق الرؤية. وكذلك قوله ﴿وإذا رأيت ثم رأيت﴾ بمعنى إذا رأيت حيث وقفت هناك رؤية. ورأيت هنا وإن كان فعلاً متعدياً لكنه ليس بالضرورة ذكر المفعولين للفعل المتعدي وإنما يؤتى بالذي يناسب قصد المتكلم فأحياناً يستعمل الفعل امتعدي استعمال اللازم أو يتعدى الفعل بمفعول به واحد وقد لا يؤتى بالمفعولين والأمثلة في القرآن كثيرة منها قوله تعالى ﴿فأما من أعطى واتقى﴾ لم يذكر لمن أعطى وما أعطى، أو يأتي بمفول به واحد كما في قوله تعالى ﴿حتى يُعطوا الجزية عن يد﴾ لم يذكر لمن يعطوها ، وقوله ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ لم يذكر ماذا يعطيه، وقد يُذكر المفعولين كما في قوله تعالى ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾. وهذ الإطلاق كم في قوله ﴿لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا﴾ وذكر المفعولين أو أحدهما أو عدم ذكرهما يكون بحسب ما يريد الكتكلم. وقوله تعالى ﴿وإذا رأيت﴾ بمعنى مطلق الرؤية ليس هناك شيء محدد أو مكان محدد أينما وقعت الرؤية وهذا من دلالة القدرة والنعيم الذي في الجنة لعباد الله المؤمنين. وقوله تعالى ﴿إذا رأيتهم حسبتهم﴾ قد يتساءل البعض أن كلمة حسبتهم بمعنى ظنّ وأن هناك تشابه في المعنى أو يحتملان دلالة قريبة كما في كلمتي النظر والرؤية. فنقول أن النظر قد لا يكون معه رؤية بمعنى تنظر إلى المكان سواء رأيته أم لم تره. والرؤية تفيد تحقق المرئي ﴿وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون﴾ لذا استخدم تعالى الفعل رأى هنا في الآية لتفيد تحقيق الرؤية. *ما الفرق بين ثُم وثمّ؟ ثُم حرف عطف وثمّ إسم ظرف بمعنى هناك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) الإنسان) لا تدخل حرف الجر على ثُمّ. ثُم حرف عطف لا يجوز إدخال حرف جر عليه.

ﵟ ۞ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ﵞ سورة الإنسان - 19


Icon