الوقفات التدبرية

لقد ذكر المفسرون مناسبة هذه السورة لما قبلها أعني سورة (المدثر)...

لقد ذكر المفسرون مناسبة هذه السورة لما قبلها أعني سورة ﴿المدثر﴾ وارتباطها بها. فقد قالوا: إنه سبحانه قال في آخر سورة المدثر: (كلا بل يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة) وفيها كثير من أحوال القيامة "فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها" فكان بينهما مناسبة ظاهرة. إن هذه السورة قطعة فنية مترابطة متناسقة محكمة النسج، وليس صواباً ما جاء في (الإتقان) أن "من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾ فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جداً" إن ترابط آيات هذه السورة ترابط محكم وتناسبها فيما بينها لا يخفى على المتأمل. لقد أقسم الله سبحانه بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة على رأي الأكثرين، أو أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة على رأي آخرين وسر هذا الاختلاف، أن ثمة قراءة بإثبات القسم بيوم القيامة أي ﴿لاأقسم﴾ إلا أنهم اتفقوا على إثبات حرف النفي مع النفس اللوامة فكلهم قرأ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾. ولا نريد أن نطيل الكلام على اقتران فعل القسم بـ ﴿لا﴾ ودواعيه فقد تكلم فيه المفسرون والنجاة بما فيه الكفاية والذي نريد أن نقوله ههنا: إن كل أفعال القسم المسندة إلى الله في القرآن الكريم مسبوقة بـ ﴿لا﴾ إذ ليس في القرآن الكريم ﴿أقسم﴾ بل كلها ﴿لا أقسم﴾، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾ ﴿الواقعة﴾ وقوله: ﴿فلا أقسم بالشفق﴾ [الإنشقاق]، وقوله: ﴿لا أقسم بهذا البلد﴾ ﴿البلد﴾ وما إلى ذلك فليس القسم ههنا بدعاً من التعبير. وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو "لون من ألوان الأساليب في العربية تخبر صاحبك عن أمكر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا، أو لا أريد أن أحلف لم أن ألأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدراجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن ألأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله لأن الحلف بالله عظيم، إن الأمر على غير ما تظن فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر" أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد "والتأكيد عن طريق النفي، ليس بغريب عن مألوف استعمالنا، فأنت تقول لصاحبك: لا أوصيك بفلان تأكيداً للوصية ومبالغة في الاهتمام بها، كما تقول: لن ألح عليك في زيارتنا فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالطلب المباشر الصريح" ومهما كان الرأي في دخول ﴿لا﴾ على فعل القسم، فإن هذا لا يغير شيئاً من أصل المسألة، وهي أنه ابتدأ السورة بالقسم بيوم القيامة والنفس اللوامة نفياً أو إثباتاً. وقد حاول المفسرون أن يجدوا المناسبة لاجتماعهما في القسم فقالوا: "المقصود من إقامة القيامة، إظهار أحوال النفوس اللوامة، أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة" . وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "وجمع سبحانه في القسم بين محل الجزاء وهو يوم القيامة ومحل الكسب وهو النفس اللوامة ولما كان معادها هو محل ظهور هذا اللوم وترتب أثره عليه، قرن بينهما في الذكر إن السورة مبنية على ما ابتدأت به من القسم، فهي مبنية على أحوال يوم القيامة، وعلى النفس، ولا تكاد تخرج عن ذلك. هذا أمر والأمر الآخر أنه تعالى لم يقسم بالنفس على صفة الإطلاق، بل أقسم بنفس مخصوصة، وهي النفس اللوامة، وهذا له طابعه الواضح في السورة كما سنبين. إن الإنسان يلوم نفسه لأحد سببين: إما أن يتعجل فيفعل ما لا ينبغي له فعله، فيندم على ذلك فيبدأ يلوم نفسه، لم فعلت ذاك؟ لم لم أترو؟ وإما أن يتراخى عن فعل كان الأولى له أن يفعله، وأن يغتنم الفرصة التي سنحت له، ولكنه قعد عن ذلك مسوفاً، ففاته نفع كبير، وقد لا تسنح له فرصة، كالتي فاتت، فيبدأ يلوم نفسه. لم تباطأت، لم لم أفعل؟ لم لم أغتنم الفرصة؟ ونحو ذلك. والسورة مطبوعة أيضاً بهذين الطابعين من صفات النفس اللوامة، طابع العجلة التي تدعو إلى الندم واللوم، وطابع التباطؤ وتفويت الفرص الذي يؤدي إلى الندم واللوم أيضاً. فالسورة مبنية إذن على ما ابتدأت به. يوم القيامة، والنفس اللوامة في حيالها: العجلة والتباطؤ. أما يوم القيامة، فقد تكررت أحواله في السورة في تناسق لطيف، إلى أي ختمت بقوله: ﴿أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى﴾ فتناسب بدء السورة مع خاتمتها.

ﵟ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﵞ سورة القيامة - 1


Icon