الوقفات التدبرية

وقال بعد ذلك: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) والعاجلة يؤثرها...

وقال بعد ذلك: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) والعاجلة يؤثرها بنو آدم على وجه العموم، ويقدمونها على الآخرة وارتباطها بما قبلها وهو قوله تعالى: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾ ظاهر فكلتاهما في العجلة وإيثارها، فالرسول كان ينازع جبريل القراءة ولا يصبر حتى يتمها ليأخذه على عجل، والناس على وجه العموم يؤثرون العاجلة على الآخرة، فهو طبع عام في البشر خلقوا عليه كما قال تعالى: ﴿خلق الإنسان من عجل﴾ ﴿الأنبياء﴾ فالموضوع إذن موضوع واحد هو العجلة. وكلاهما يتعجل ما هو أثير لديه ومفضل عنده. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: ﴿كلا بل تحبون العاجلة﴾، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة: ﴿وتذرون الآخرة﴾… فإن قلت: كيف اتصل قوله: ﴿لا تحرك به لسانك﴾ إلى آخره بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة التخلص منه إلى هذا التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة. وجاء في (روح المعاني) في هذه الآية: "كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) تعميم الخطاب للكل كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك، لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة… ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه: ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ فإن ملوح إلى معنى: بل تحبون الخ". إن هذه الآية كما هو واضح مناسبة لجو العجلة التي بنيت عليها السورة، وهي متصلة ـ كما مر بنا ـ بقوله تعالى: ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ فإن الإنسان يسوف بتوبته ويغره أمله ويؤثر ما بين يديه ويغمس نفسه في شهواته، ويستحب عاجل حياته ولا ينظر فيما وراء ذلك من أمور الآخرة، فهي متصلة بما قبلها وبقوله: ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ أتم اتصال. كما أنها متصلة بالنفس اللوامة التي بنيت عليها السورة اتصالاً ظاهراً بالنفس اللوامة كما ذكرنا تلوم نفسها لأحد سببين: إما أن تعجل فتعمل عملاً تندم عليه، فتلوم نفسها علة ذلك، وهذا ما أكده قوله: ﴿كلا بل تحبون العاجلة﴾ وإما أن تؤخر عملاً كان ينبغي لها عمله وقرتها خيره، فتندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك وهذا ما يفيده قوله: (كلا بل تحبون العاجلة و تذرون الآخرة) فهو هنا عجل أمراً وترك آخر فندم من الجهتين ولام نفسه الحالتين، لام نفسه في العجلة ولام نفسه في الترك. وما أحرى أن تسمى هذه النفس بالنفس اللوامة، لأن دواعي اللوم لكاثرة عليها. ثم انظر كيف اختار الفعل: ﴿وتذرون﴾ على (تتركون) ذلك أم في تذورن) حذفاً واصله (توذرون) من ﴿وذر﴾ ليدل ذلك على طابع العجلة الذي يريد أن ينتهي من الشيء في أقرب وقت. فاختيار هذا الفعل المحذوف الواو، مناسب لجو العجلة. و قد تقول: ولم لم يقل: ﴿تدعون﴾ وهو فيه حذف كما في ﴿وتذرون﴾ والجواب ـ والله أعلم ـ أن اختيار (تذرون) على ﴿تدعون﴾ له سببه ذلك أن الفعل ﴿وذر﴾ في عموم معانيه يفيد الذم، ومنه قولهم: امرأة وذرة أي: رائحتها رائحة الوذر، وهو اللحم، وقولهم (يا ابن شامة الوذر) وهو سب يكنى به عن القذف. وفي الحديث : (شر النساء الوذرة المذرة) بخلاف ﴿ودع﴾ فإن من معانيه الراحة والدعة وخفض العيش. وقد يفيد المدح ومنه قولهم، رجل وديع، أي: هادئ ساكن. في حين أن الموقف ذم فإنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فاختار الفعل الذي يقال في عموم للذم ولم يختر الفعل الذي يقال في كثير من معانيه و أكثر معانيه للمدح. وهو اختيار فني رفيع.

ﵟ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﵞ سورة القيامة - 20


Icon