الوقفات التدبرية

ثم قال بعد ذلك: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) اسم (ليس) مكني غير...

ثم قال بعد ذلك: ﴿أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى﴾ اسم ﴿ليس﴾ مكني غير مصرح به وهو اسم الإشارة ﴿ذلك﴾ وقد أشار به إلى ذات غير مذكورة في الكلام، فناسب ذلك عدم التصريح بالفاعل فيما تقدم من الأفعال. وناسب آخر السورة أولها، فقد أقسم في مفتتح السورة بيوم القيامة، وختمها بإحياء الموتى. وقد تقول: ولم قال هنا: ﴿أليس ذلك بقادر﴾ على سبيل التقرير، وقال في أوائل السورة: ﴿بلى قادرين﴾ على سبيل الإثبات؟ والجواب أن إحياء الموتى أصعب وأعسر من تسوية البنان في القياس العقلي، وإن كانت الأفعال بالنسبة إلى الله كلها سواء، فجاء في آية إحياء الموتى بأسلوب التقرير الاستفهامي الدال على الأهمية وأكد القدرة بالباء الزائدة فقال: ﴿أليس ذلك بقادر﴾ في حين جاء بالإثبات في تسوية البنان، يقال: ﴿بلى قادرين﴾ ثم إنه حذف الفعل وصاحب الحال، وجاء بالحال أحدها، فقال: ﴿قادرين﴾ ولم يقل: (نجمعها قادرين) فأخلاها من كل توكيد في حين ذكر الجملة تامة، مؤكدة في إحياء الموتى فدل ذلك على الفرق بين المقامين. وفي ختام هذه اللمسات، نقول: إن هناك أكثر من خط فني في هذه السورة. منها: خط مراعاة العجلة، ومنها: مراعاة جانب القيامة، ومراعاة الازدواج في التعبير وغيرها من الخطوط. أما مراعاة جانب القيامة وجانب النفس اللوامة، فالسورة مبنية عليهما أصلاً كما بينا. وسنشير إلى جانبين آخرين هما: مراعاة جانب العجلة، ومراعاة الازدواج في التعبير. أما بقية الجوانب، فهي ظاهرة لا تحتاج إلى إيضاح. فمن مراعاة جانب العجلة: 1ـ حذف جواب القسم الذي افتتحت به السورة وهو ﴿لا أقسم﴾. 2ـ حذف عامل الحال وهي ﴿قادرين﴾. 3ـ عدم ذكر مرجع الضمير في قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآنه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) فالهاء لا تعود على مذكور. 4ـ عدم ذكر فاعل الفعل ﴿بلغت﴾ في قوله: ﴿كلا إذا بلغت التراقي﴾ ولم يجر له ذكر. 5ـ عدم ذكر فاعل الظن في قوله: ﴿وظن أنه الفراق﴾ ولم يجر له ذكر. 6ـ عدم ذكر فاعل ﴿فلا صدق ولا صلى﴾. 7ـ حذف نون ﴿يكون﴾ في قوله: ﴿ألم يك﴾. ومن السياقات الواردة في العجلة: 1ـ قوله: ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ والمعنى: أنه يؤثر العاجلة، فيقدم شهواته. 2ـ قوله: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾. 3ـ قوله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة). أما ظاهرة الازدواج أو الاقتران بين الأمرين المتناظرين أو المتقابلين، فإن السورة مبنية كما يبدو على هذا الازدواج والاقتران. فالسورة تبدأ بالقسم بشيئين هما: يوم القيامة، والنفس اللوامة، ثم تستمر السورة على هذا النحو من الاقتران والازدواج، فمن ذلك مثلاً: 1ـ أنها أقسمت بشيئين هما يوم القيامة والنفس اللوامة. 2ـ وجمعت بين آيتين من آيات الله الكونية: آية الليل وآية النهار، وهما الشمس والقمر وذلك في قوله: ﴿وجمع الشمس والقمر﴾. 3ـ وذكرت نوعين من العمل ينبأ بهما الإنسان، وهما ما قدم وما أخر ﴿ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر﴾. 4ـ وذكرت ما خفي في النفس وما يظهره الإنسان من الحجج والمعاذير وذلك في قوله: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره). 5ـ وذكرت العاجلة والآخرة وذلك في قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة). 6ـ وذكرت الحب والترك وذلك في قوله: ﴿تحبون﴾ و(تذرون). 7ـ وذكرت نوعين من الوجوه: الوجوه الناضرة، والوجوه الباسرة. 8ـ ونفت اثنتين من الطاعات في قوله: ﴿فلا صدق ولا صلى﴾. 9ـ وأثبتت اثنتين من المعاصي وذلك في قوله: ﴿ولكن كذب وتولى﴾. 10ـ وكررت آية واحدة مرتين وهي قوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى). 11ـ وذكرت نعمتين من نعم أهل الجنة: نضرة الوجوه والنظر إلى الرب (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة). 12ـ وذكرت عقوبتين من عقوبات أهل النار، بسور الوجه وقاصمة الظهر: (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة). 13ـ وذكرت نوعين من الجمع، جمعاً في يوم القيامة وجمعاً في الدنيا. أما الجمع في يوم القيامة فهو قوله: ﴿ألن نجمع عظامه﴾ وقوله: ﴿وجمع الشمس والقمر﴾. وأما جمع الدنيا فهو جمع القرآن، وهو قوله: ﴿إن علينا جمعه وقرآنه﴾. 14ـ وذكرت نوعين من القدرة: القدرة على تسوية البنان وهو قوله: ﴿بلى قادرين على أن نسوي بنانه﴾ والقدرة على إحياء الموتى، وهو قوله: ﴿أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى﴾. ذكرهما بطريقتين من الإثبات. الإثبات الصريح: وهو قوله: ﴿بلى قادرين﴾. والإثبات على طريق التقرير ﴿أليس ذلك بقادر﴾. وإحداهما بحرف الجواب هو: ﴿بلى﴾، والأخرى بحرف السؤال وهو الهمزة: ﴿أليس ذلك﴾. 15ـ وذكر نوعين من التسوية: تسوية جزئية مقيدة وهي تسوية البنان وهو قوله: ﴿نسوي بنانه﴾. وتسوية عامة مطلقة وهو قوله: ﴿فخلق فسوى﴾. 16ـ وذكر طورين من أطوار خلق الإنسان، وهما النطفة والعلقة. 17ـ وذكر الجنسين وهما الذكر الأنثى: ﴿فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى﴾. 18ـ وذكر طريقتين من التعبير عن الله. التعبير بالجمع ﴿بلى قادرين﴾ و﴿نجمع﴾ و﴿نسوي﴾. والتعبير بالإفراد وذلك نحو قوله: ﴿فخلق فسوى﴾. إلى غير ذلك من مظاهر الازدواج.

ﵟ أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ﵞ سورة القيامة - 40


Icon