الوقفات التدبرية

قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا...

قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون﴾[البقرة:9]. ثم قال: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُون﴾[البقرة:12]. في الآية الأولى استعمل المولى – عز وجل – النفي بـ﴿ما﴾، فقال﴿ وَمَا يَشْعُرُون ﴾، وفي الآية الثانية استعمل النفي بـ﴿ لاَّ ﴾، فقال ﴿ لاَّ يَشْعُرُون ﴾، وهناك فرقٌ بين النفي بـ﴿ما﴾ والنفي بـ﴿لا﴾؛ فـ﴿ما﴾ تنفي الحال، أي: تنفي الفعل الواقع في الزمن الحاضر ، ونفي ﴿لا﴾ ممتد يشمل الحاضر والمستقبل؛ فاستعمال النفي بـ﴿ما﴾ في المخادعة وعدم الشعور بها من قبل أصحابها؛ لأن المخادعة ليست عملاً مستمراً دون انقطاع ، بل هي تحصل بين الفينة والفينة، ولا يمكن تصورها؛ لاحتمال أن يكتشف المؤمنون حقيقتها ، فلا تكون مجدية ولا نافعة، فناسب التعبير عن ذلك النفي بـ﴿ما﴾ التي لنفي الحال. أمّا الإفساد فهو خصلة سوء ملازمة لأصحابها المنافقين، ولذلك تأمل تعبير الله عن هذه الخصلة فيهم إذ استعمل الجملة الاسمية المؤكدة بعدد من المؤكدات:﴿ أَلا ﴾ و ﴿ إِنَّهُمْ ﴾و﴿ هُمُ ﴾، و﴿ الْمُفْسِدُونَ ﴾، ولكنهم فقدوا كل إحساس أو شعور بحالهم المفسدة، فصار اليأس من استيقاظهم أمراً محتماً ، فناسب التعبير عن ذلك النفي بـ ﴿ لاَّ ﴾. وتأمل مرةً أخرى قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون (11)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُون (12)}[البقرة: 11,12]،((فهذه مناظرة جرت بين المؤمنين والمنافقين، فقال لهم المؤمنون: ﴿ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾، فأجابهم المنافقون بقولهم:{ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون (11)}، فكأن المناظرة انقطعت بين الفريقين، ومنع المنافقون ما ادعى عليهم أهل الإيمان من كونهم مفسدين، وإن ما نسبوهم إليه إنما هو صلاحٌ لا فسادٌ. فحكم العزيز الحكيم بين الفريقين بأن أسجل على المنافقين أربع إسجالات: أحدها: تكذيبهم. والثاني: الإخبار بأنهم مفسدون. والثالث: حصر الفساد فيهم بقوله:﴿هُمُ الْمُفْسِدُونَ ﴾. والرابع: وصفهم بغاية الجهل، وهو أنه لا شعور لهم البتة بكونهم مفسدين. وتأمّل كيف نفى الشعور عنهم في هذا الموضع، ثمّ نفى عنهم العلم في قولهم:﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء﴾[البقرة:13]، فقال لهم: ﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُون﴾، فنفى علمهم بسفههم ، وشعورهم بفسادهم ، وهذا أبلغ ما يكون من الذمّ والتجهيل، أن يكون الرجل مفسداً ،ولا شعور له بفساده البتة، مع أن أثر فساده مشهور في الخارج، مرئيٌ لعباد الله، وهو لا يشعر به، وهذا يدل على استحكام الفساد في مداركه وطرق علمه، وكذلك كونه سفيهاً، والسفه غاية الجهل، وهو مركب من عدم العلم بما يصلح معاشه ومعاده ،وإرادته بخلافه، فإذا كان بهذه المنزلة، وهو لا يعلم بحاله، كان من أشقى النوع الإنساني، فنفى العلم عنه بالسفه الذي هو متضمن لإثبات جهله، ونفي الشعور عنه بالفساد الواقع منه متضمنٌ لفساد آلات إدراكه، فتضمنت الآيتان الإسجال عليهم بالجهل، وفساد آلات الإدراك ، بحيث يعتقدون الفساد صلاحاً ، والشر خيراً)).

ﵟ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﵞ سورة البقرة - 12

ﵟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﵞ سورة البقرة - 11


Icon