الوقفات التدبرية

قوله تعالى:{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا...

قوله تعالى:﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون﴾[البقرة:14]. إن النظم القرآني الفريد كان في غاية الإبداع وهو يزاوج بين الجمل الاسمية والجمل الفعلية، ويكون التعبير بإحداهما في سياق لا تنفع فيه الأخرى، فالاسم يدل على الحدث أو الحقيقة غير مقرون بزمانً، وكل ما كان زمانياً هو متغيرٌ، والتغير يشعر بالتجدد والحدوث، ولذلك كانت الجملة الفعلية تدل على التجدد والحدوث، أما الجملة الاسمية فتدل على الثبوت والدوام. والمتأمل لخطابي المنافقين في هذه الآية يجد أنهم نوعوا خطابهم ، فخاطبوا المؤمنين بقولهم :﴿ آمَنَّا ﴾، وهي جملة فعلية تدل على التجدد والحدوث؛ وسبب ذلك – والله أعلم- أنهم يعلمون أن المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب ينكرون دعواهم التزام الإيمان، ولا يقرون زعمهم الانخراط في زمرة المؤمنين؛ لما عرفوه عنهم من النفاق ومخالفة أوامر الله ورسوله ونواهيهما ، ولذلك أرادوا بخطابهم هذا وباستعمالهم الجملة الفعلية، أرادوا الدلالة على حدوث الإيمان في قلوبهم، والإيماء إلى تجدده فيها ، والإشعار بتحولهم عما كان المؤمنون يعرفونه فيهم من الكفر والنفاق. وأما حين خاطبوا إخوانهم الكفار واليهود فقد خاطبوهم بقولهم:﴿ إِنَّا مَعَكْمْ ﴾، وهي جملة اسمية تدل على الثبوت والدوام على كفرهم؛ للدلالة والتأكيد على أن إظهارهم الإيمان أمام المؤمنين إنما كان للتعمية والخداع، وليس إيماناً حقيقياً، ولذلك أكّدوا خطابهم لهم بـ﴿ إِنّ﴾ وبالجملة الاسمية ، فالتعبير بالجملة الاسمية نوعٌ من أنواع التأكيد. وإذا تأمّلنا الآية مرة أخرى نجد أن خطابهم للمؤمنين ورد غير مؤكد بمؤكدات، مع أن المؤمنين يشكون في إيمانهم، ونجد أن خطابهم لإخوانهم الكافرين مؤكد بمؤكدين،هما : الجملة الاسمية و ﴿ إِنّ﴾، مع أن ظاهر الحال يدل على أن إخوانهم الكفار لا يشكون في بقائهم على دينهم ، وكان مقتضى الحال يقتضي بأن يعكسوا في كلامهم، فيؤكدوا حطابهم للمؤمنين،ولا يؤكدوا خطابهم لقومهم، فما السر فيما جرى عليه الكلام في الآية؟. الجواب عن ذلك: أنه جرى ((على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر؛ فخُلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر؛ لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك، وذلك من إتقان نفاقهم، على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين؛ لعدهم تعينهم عندهم، فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر. وأما قولهم لقومهم:﴿ إِنَّا مَعَكْمْ ﴾بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر، وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم)). كذا قال ابن عاشور في تفسيره،والله أعلم.

ﵟ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﵞ سورة البقرة - 14


Icon