الوقفات التدبرية

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ...

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِين (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُون (59)}[البقرة:58-59]. وقوله تعالى:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِين (161)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُون (162)}[الأعراف:161-162]. الموازنة بين آيتي سورة البقرة وآيتي سورة الأعراف تبرز النظرات التالية: 1-عطف ﴿كُلُواْ﴾ بالفاء في سورة البقرة، وبالواو في سورة الأعراف؛ لأنه تعالى أمرهم في سورة (البقرة) بالدخول، وهو سريع الانقضاء، فقال:﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾، ثم إنه لا يحسن الأكل مع الدخول، ولا قبله ، بل لا يكون إلا بعده؛ لسرعة انقضاء الدخول، ولذلك ناسبه استعمال حرف العطف ﴿الفاء﴾؛ لدلالتها على التعقيب من غير مهلة. أمّا في سورة الأعراف فأمرهم بالسُّكنى – وهي الاستقرار -، وهي ممتدة، فقال:﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾، مما يمكن أن يكون معها الأكل، ولذلك استعمل (الواو) ، فكأن الأمر في سورة (البقرة) مرادٌ به الإسراع بالدخول والأكل والسجود والقول والعودة مرة أخرى ، أما في سورة ﴿الأعراف﴾ فالمراد الاستقرار والتمتع بالأكل. 2- الإتيان بقوله:﴿رَغَداً﴾ في سورة (البقرة)، وحذفها في صورة ﴿الأعراف﴾ له مقصدٌ بليغٌ؛ فإنه – والله أعلم- لمّا أسند القول إليه تعالى، فقال:﴿وَإِذْ قُلْنَا ﴾، كان من المناسب أن يذكر معه ما يدل على إفاضة النعم ، وما يدل على كرم الكريم، فقال:﴿رَغَداً﴾. أما في سورة الأعراف فإنه لما بنى الفعل المجهول، فقال:﴿وَإِذْ قِيلَ ﴾، لم يذكر معه ما ذكر من الإكرام الوافر؛ لأنه لم يسند إلى الله تعالى. وجعل ابن الزبير الغرناطي سبب عدم ذكر في سورة الأعراف أن في فحوى الآية ما يدل على معنى الرغد، فلم تكن هناك حاجة للنص عليه، قال: ((إن مفهوم السكنى-وهو الملازمة والإقامة –مع الأمر بالأكل حيث شاؤوا ، مع انضمام معنى الامتنان والإنعام المقصود في الآية، كل ذلك مشعرٌ ومعرفٌ بتمادي الأكل، وقوة السياق مانعةٌ من التحجير والاقتصار ، فحصل معنى الرغد، فوقع الاكتفاء بهذا المفهوم الحاصل قطعاً من سياق آية الأعراف)). 3- قال في سورة البقرة: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِين ﴾عاطفاً بالواو؛ ليكون اتصاله بما قبله أقوى؛ بسبب إسناده القول إلى الله تعالى في أولها: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ﴾. أما في سورة الأعراف فلما لم يكن القول مسنداً إلى الله تعالى ناسب حذف الواو؛ ليكون الكلام استئنافاً. 4- قال الله تعالى في سورة (البقرة): ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾، وزاد في سورة ﴿الأعراف﴾: ﴿مِنْهُمْ ﴾،وهي مرادة في سورة البقرة؛ لأن الذين ظلموا هم من المخاطبين بالأمر:﴿ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾، هم الذين بدلوا ، وغيروا في القول. أمّا ذكرها في سورة ﴿الأعراف﴾ فلأن أوّل قصة أصحاب موسى – عليه الصلاة والسلام- في الصورة نفسها مبني على التخصيص؛ إذ قال: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون﴾[الأعراف:159]، فذكر أن منهم من يفعل ذلك ،ثم عدد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهت قال: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾، فأتي في آخر ما حكى عنهم من مقابلة نعمة الله عليهم بتبديلهم ما قدم به القول إليهم بلفظ ﴿من﴾ التي هي للتخصيص والتمييز، بناءً على أوّل القصة؛ ليكون آخرها متوافقاً مع أوّلها. 5- في سورة ( البقرة) قال: ﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾، وفي سورة ﴿الأعراف﴾ قال:﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ﴾، ومن المعروف أن ﴿خطايا﴾ جمع تكسير يدل على الكثرة، وأن ﴿خطيئات﴾ مما جُمع بالألف والتاء ، والجمع بالألف والتاء إذا تدخل عليه ﴿أل﴾ يدل على القلة. وتعليل هذا الاختلاف هو ما قلناه آنفاً: إنه لمّا كان إسناد القول في سورة ( البقرة) إلى الله تعالى ناسب تكثير النعم والفضائل، فأتي بما يدل على الكثير من الجم، ف (فعالى) من أوزان جمع الكثرة، وذلك ليدل على كرمه وجوده وعظيم امتنانه – سبحانه وتعالى-،فكأنه قال: نغفر لكم خطاياكم كلها جمعاء، وعكسه في سورة الأعراف.

ﵟ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﵞ سورة البقرة - 58

ﵟ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﵞ سورة البقرة - 59

ﵟ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﵞ سورة الأعراف - 161

ﵟ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﵞ سورة الأعراف - 162


Icon