الوقفات التدبرية

قوله تعالى:{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ...

قوله تعالى:{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمين (95)}[البقرة:94-95]. وقوله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (6) وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين(7)}[الجمعة:6-7]. في آية سورة البقرة قال:﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ﴾، وفي آية سورة الجمعة قال:﴿وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ﴾، والنفي بـ﴿لا﴾ أعم من النفي بـ ﴿لن﴾، قال السهيلي – رحمه الله-:((فحرف ﴿لا﴾ لامٌ بعدها ألف، يمتد بها الصوت ما لم يقطعه تضييق النفس، فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها، و﴿لن﴾ بعكس ذلك، فتأمله، فإنه معنى لطيفٌ، وغرضٌ شريف)) انتهى كلامه. فـ﴿لا﴾ تفيد العموم؛ لأن نفيها ينسحب على جميع الأزمنة، و﴿لن﴾ تفيد القطع وقرب المنفيّ. وقال السهيلي – عليه من رحمة الله شآبيبها -:((على أني أقول: إن العرب – مع هذا – إنما تنفي ب﴿لن﴾ ما كان ممكنا عند المخاطب، مظنونا أن سيكون، فتقول:(لن يكون) لما يمكن أن يكون؛ لأن ﴿لن﴾ فيها معنى ﴿أن﴾، وإذا كان الأمر عندهم على الشك لا على الظن، كأنه يقول: أيكون أم لا يكون؟، قلت في النفي :﴿لا يكون﴾ )). وقد فرق كمال الدين عبدالواحد بن عبدالكريم الزملكاني بينهما تفريقاً مبنيا على اللفظ، فقال: ((﴿لن﴾ محل استعمالها المظنون حصوله، ومحل استعمال ﴿لا﴾ المشكوك في حصوله، وهذا يعلمك أن ﴿لن﴾ آكد في النفي، على ما قاله فخر خوارزم رحمه الله، وإن كان زمانها أقصر؛ ومما يثبت عندك ذلك قوله – عز وجل-:{وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُأَبَدًا} بعد حرف الشرط، وهو{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (6)}، كأنه قيل: متى زعموا ذلك في وقت من الأوقات، وقيل: تمنوا الموت، فلا يتمنونه أبداً. فلما كان حرف الشرط لا يختص بوقت دون وقت، وعم جميع الأزمنة، قوبل بـ﴿لا﴾؛ ليعم ما جُعل جوابا له. ولما فات العموم من قوله تعالى:﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين﴾؛ بسبب دخول ﴿كان﴾؛ لكونها لا تدل على الحدث،بل تدخل على المبتدأ والخبر؛ لتقرن مضمون الجملة بالزمان الماضي، وكأنه قيل: إن كانت قد وجبت لكم الدار الآخرة عند الله فتمنوا الموت الآن. وكان حرف الشرط داخلاً على فعل أمده قريب جاء في جوابه ﴿لن﴾، فانتظم الخطاب في الآيتين)) انتهى كلامه. ولكني أري بينهما تفريقا من حيث المعنى؛ فإن فائدة﴿لن﴾ في آية سورة البقرة الدلالة على القطع والبتات؛ لأنه علق صحة فعل الشرط الذي ادّعوه – وهو كون الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس-على تمني الموت؛ ليصلوا إلى جنة التعليم الخالصة لهم من دون الناس بزعمهم، فالحبيبلا يكره لقاء حبيبه، بل يتمناه،((والابن لا يكره لقاء أبيه ولا سيما إذا علم أن كرامته ومثوبته مختصة به، بل أحب شيء إليه لقاء حبيبه وأبيه، فحيث لم يحب ذلك، ولم يتمنه، فهو كاذبٌ في قوله، مبطل في دعواه)). ودعواهم بأن لهم الدار الآخرة خالصة عند الله، وزعمهم كما في غير هذه الآية أنهم أبناء الله وأحباؤه، لو صحت لكانت غاية ما يطلبه مطيع الله وعابده، فليس بعد حصول الدار الآخرة خالصة لأمة من الأمم مطلب أعظم منه، ولا يطمع طامع بزيادة عليه من حيث الظفر بالآخرة، والاستئثار بنعيمها، ونظرا إلى عظم هذه الدعوى ووثوق أصحابها بها احتاج الرد عليهم بها إلى ما هو أبلغ في القطع وأقوى، فجاء بـ ﴿لن﴾القاطعة النافية، فقال:﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ﴾، فهذا النفي كالصاعقة وقعت على رؤوسهم، ودحضت دعواهم. أما في آية سورة ﴿الجمعة﴾ فقد عُلق على تمني الموت صحة فعل الشرط الذي ادعوه وهو كونهم أولياء لله من دون الناس، فليس زعمهم هذا مطلبا لا مطلب وراءه؛ لأنه يحتاجون بعد ذلك إلى طلب قبول أعمالهم كما يفعل الأولياء، ويرجون الثواب عليها في الآخرة، فلما كان الشرط في هذه الآية قاصراً عنه في سورة البقرة لم يُحتج في نفيه إلى ما يدل على القطع، فجاء بـ ﴿وَلاَ ﴾النافية، فقال:﴿وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ﴾، وهذا النفي أيضا يدل على عموم الأزمنة؛ لأن دعواهم بأنهم أولياء الله وأحباؤه أكثر ترددا من دعواهم بأن لهم الدار الآخرة خالصة. وههنا تنبيه يحسن ذكره،وهو: أن الزمخشري يرى أن ﴿لن﴾ تفيد التأبيد؛ للوصول إلى مذهبه الاعتزالي في نفي رؤية المؤمنين ربهم في الدنيا والآخرة مستدلاً بقوله تعالى:﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي﴾[الأعراف:143]. والرد على الزمخشري سهل جدا؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾[مريم:26]، فخص النفي باليوم، وهذا معارض للتأبيد، وفي سورة البقرة قال:{وَلَن يَتَمَنَّوْهُأَبَدًا}، ولو كانت ﴿لن ﴾ دالة على التأبيد لما احتاجت إلى التأكيد بقوله:﴿أَبَدًا﴾، ومما يرد على الزمخشري أيضا قوله تعالى:﴿قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾[طه:91]، فقيد النفي برجوع موسى ، وهو منافٍ للتأبيد. وعجيب أمر عالم جهبذ كالزمخشري، كيف يسقط مثل هذا السقطة؟ لكنه الانحراف في العقيدة، يُعمي ويُصم، ولا يخفى ذي بصيرة ما يعتور المعتزلة من قصور في فهم كلام الله، فهم كما قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: ((وهكذا كل صاحب بدعة تجده محجوبا عن فهم القرآن. وتأمل قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾[الأنعام:103]، كيف نفى فعل الإدراك بـ﴿لاَّ﴾الدالة على طول النفي ودوامه؛ فإنه لا يدرك أبدا، وإن رآه المؤمنون فأبصارهم لا تدركه ، تعالى عن أن يحيط به مخلوق. وكيف نفى الرؤية بـ﴿لَن﴾، فقال:﴿لَن تَرَانِي﴾؛ لأن النفي بها يتأبد، وقد أكذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي بـ﴿لن﴾ صريحا بقوله:﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾[الزخرف:77]، فهذا تمن للموت، فلو اقتضت ﴿لن﴾ دوام النفي تناقض الكلام، كيف، وهي مقرونة بالتأبيد بقوله:{وَلَن يَتَمَنَّوْهُأَبَدًا}؟، ولكن ذلك لا ينافي تمنيه في النار؛ لأن التأبيد قد يراد به التأبيد المقيد، أو التأبيد المطلق، فالمقيد كالتأبيد بمدة الحياة، كقولك: والله لا أكلمه ابدا، والمطلق كقوله: والله لا أكفر بربي أبدا. وإذا كان كذلك فالآية إنما اقتضت نفي تمني الموت أبد الحياة الدنيا، ولم يتعرض للآخرة أصلاً؛ وذلك لأنهم لحبهم في للحياة، وكراهتهم للجزاء لا يتمنون الموت، وهذا منتفٍ في الآخرة. فهكذا ينبغي أن يفهم كلام الله، لا كفهم المحرفين له عن مواضعه)).

ﵟ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﵞ سورة البقرة - 95

ﵟ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﵞ سورة البقرة - 94

ﵟ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﵞ سورة الجمعة - 6

ﵟ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﵞ سورة الجمعة - 7

ﵟ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﵞ سورة الأعراف - 10

ﵟ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﵞ سورة مريم - 26

ﵟ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ ﵞ سورة طه - 91

ﵟ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﵞ سورة الأنعام - 103


Icon