الوقفات التدبرية

قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ...

قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون (159)إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين(161)}[البقرة:159-161]. لو وقفنا أما هذه الآيات العظيمات متدبرين فيها لخرجنا منها بفوائد بديعة، منها: الفائدة الأولى: أن الله تعالى عبر عن الكاتمين لما أنزله من البينات والهدى ، عبر عنهم بالفعل المضارع، فقال: ﴿يَكْتُمُونَ﴾، ومن المعلوم أن الفعل المضارع يدل على الزمن المحاضر والمستقبل ، فالفعل﴿يَكْتُمُونَ﴾ إذاً يدل على أن اليهود في الوقت الحاضر كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع التعبير بلفظ الماضي لتوهم السامع أن الحديث عن قوم مضوا ، وليس عن قوم حاضرين، فيخرج حينئذ عن دائرة المذمومين يهود عصر التنزيل والعصور التالية له، وهذا غير مراد؛لأن صفات اليهود لا تتغير ، فالتعبير بالفعل المضارع يدل على تجدد الكتمان منهم ، فبقاؤهم عليه تجدد له. الفائدة الثانية: قال الله تعالى:﴿ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ﴾ والجملة خبر لـ﴿إن﴾، هي جملتان : كبرى وصغرى، فالصغرى جملة الخبر الفعلية﴿ يَلعَنُهُمُ اللّهُ﴾، والكبرى الجملة الاسمية: ﴿ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ﴾، والتعبير بالجملتين ذو دلالة مزدوجة ،فهو بالجملة الاسمية يدل على ثبوت لعن الله ودوامه، وبالجملة الفعلية يدل على تجدد لعن الله لهم كلما تجدد كتمانهم، فهم يكتمون ، والله يلعنهم ، أي : يطردهم من رحمته. والإشارة بـ﴿أُولَـئِكَ﴾التي تدل على البعد للدلالة على بعدهم بالإفساد، وإفراطهم فيه، ثم أن الإشارة لا تكون إلا للمشاهد، ومع ذلك أشار بها إلى صفاتهم، وهي لا تشاهد؛ وذلك لأن وصفهم بتلك الصفات جعلهم كالمشاهدين للسامع. الفائدة الثالثة: في تكرار ﴿ يَلعَنُهُمُ﴾في قوله: ﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون﴾ مع إمكان أن يقال: (أولئك يلعنهم الله واللاعنون) ؛ وذلك لأن معنى اللعن في الثانية مختلف عنه في الأول، فإن اللعن من الله الطرد والإبعاد من رحمته ، واللحن من غيره الدعاء على الملعون بذلك ، فلاختلاف معنى اللعن تكرر الفعل، والله أعلم. الفائدة الرابعة: قوله:﴿ اللاَّعِنُون﴾ هذا الوصف المعرف بالألف واللام يشعر بأن هنالك قوما شغلهم الشاغل هو اللعن، وليس الأمر كذلك ؛ فما هناك من أحد متخصص باللعن، فيوصم به، إنما المراد هنا الذين يمكن أن يصدر منهم اللعن كالملائكة والصالحين الذين ينكرون المنكر، ويغضبون لله تعالى، ويطلعون على كتمان من يكتم آيات الله، فهم يلعنونهم لذلك ، فكأنهم اختصوا بذلك. الفائدة الخامسة: اختلف النحاة في نوع الاستثناء في قوله: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾، أمتصلٌ هو أم منقطعٌ؟. ومعلوم أن الاستثناء المتصل: هو ما كان المستثنى فيه بعضاً من المستثنى منه، والاستثناء المنقطع: هو ما لم يكن فيه المستثنى جزءا من المستثنى منه. فمن قال في هذه الآية: إن الاستثناء متصل، أراد أنه مستثنى التائبين ممن يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون. ومن قال: إن الاستثناء في هذه الآية منقطع جعل التائبين من غير الملعونين؛ لأنهم يرون أن من يلعنه الله لا يتوب عليه. الفائدة السادسة: قال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾، عبر عن كفرهم بالفعل الماضي الذي يدل على ثبوت الكفر منهم ، ثم أردفه بالإخبار عن موتهم على حالة الكفر، وهذا الصنف من الناس لا توبة لهم ، ولا يغفر لهم الله ؛ لأنه تعالى يقول:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾[النساء:116]،ولذلك عبر عن جزائهم بجملة اسمية تدل على الثبوت والدوام، وليس فيها استثناء ، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين﴾، وتأملوا كيف عبر الله عن جزاء من يكتم آيات الله بقوله:{ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُوَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون}، فاللعن عليهم غير دائم ؛ إمكان أن يتوبوا ، فيرضى الله عنهم ، فهو حديث عن أحياء. أما الآية الكريمة الأخيرة فقد عبر فيها عن جزائهم بثبوت لعنة الله عليهم ودوامها، وكذلك لعنة الملائكة والناس أجمعين؛ لأنهم ماتوا على الكفر، فأُغلق دونهم باب التوبة، فالحديث عن هالكين.

ﵟ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﵞ سورة البقرة - 159

ﵟ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﵞ سورة البقرة - 160

ﵟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﵞ سورة البقرة - 161

ﵟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﵞ سورة النساء - 116


Icon