الوقفات التدبرية

قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى...

قوله تعالى:﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون﴾[البقرة:187]. توطئة: إن الأفعال اللازمة يمكن أن تتعدى إلى مفعولها بوساطة حرق الجر، مثل أن تقول: نظرت بطرف خفي، فتعدي الفعل ﴿نظر﴾ بالباء، أو بـ ﴿إلى﴾ كأن تقول: نظرت إلى الجبل. فإذا قلت : نظرت من طرف خفي، فعديته بـ﴿من﴾ دون الباء أو ﴿إلى﴾، فبعض النحاة يقولون: إن ﴿من﴾ ضمنت معنى الباء ، وهؤلاء هم الذين يقولون بتناوب حروف الجر بعضها عن بعض، وهم يرون أن الحرف حينئذ يُبقي فيه رائحة من معناه الأصلي، يقول الكفوي: (( كل حرف كان له معنى متبادر، كالاستعلاء في (على) مثلا، ثم استعمل في غيره، فإنه لا يترك ذلك المعنى المتبادر بالكلية، بل يبقى فيه رائحة منه ، ويلاحظ معه)) وقال غيرهم : إن الحرف لا يُضمن معنى حرف آخر ، ولكن العامل فيه هو الذي يضمن معنى عامل آخر يتعدى بذلك الحرف، فيكون في ذلك دليل على الفعلين،أحدهما بالتصريح به، والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه، مع غاية الاختصار. ومثل الفعل اللازم الفعل المتعدي بنفسه حين يُستعمل متعديا بوساطة حرف الجر، فيكون مضمناً معنى فعل آخر، كقول إمام الصلاة: سمع الله لمن حمده، فقد عدى الفعل ﴿سمع﴾ إلى مفعوله (من حمده) باللام مع إمكان أن يقول: سمع الله من حمده. والسبب في ذلك أنه ضمّن ﴿سمع﴾ معنى ﴿استجاب﴾ و ﴿استجاب﴾ يتعدى بوساطة حرف الجر (اللام)، فكأنه قال: سمع الله، واستجاب لمن حمده. وهذا يؤيد قول القائلين: إن التضمين يكون في الفعل، لا في الحرف؛ لأن وجود الحرف هنا غير جائز أصلا لو لم يشرب الفعل معنى فعل آخر. وههنا في هذه الآية التي بين أيدينا موضعا للنظرة وقفتان: الأولى: يقال: رفش فلان بزوجه، أو: رفث معها، ولا يقال: رفث إليها، فلم قال الله تعالى في الآية الكريمة:﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ﴾ ؟. الجواب على هذا السؤال هو: أنه ضمن ﴿رفث﴾ معنى ﴿أفضى﴾، وهذا الفعل الأخير يتعدى بـ﴿إلى﴾، تقول: أفضى فلان إلى زوجه. والتضمين هنا أفاد صحة الرفث والإفضاء إلى الزوجة ليلة الصيام، والرفث هو متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، أما الإفضاء فهو المباشرة والجماع، ولذلك لو لم يعد الرفث بـ ﴿إلى﴾ لتبادر إلى الذهن حِل ذِكر الجماع ودواعيه دون مباشرته، فتأملوا أسرار العربية، والبيان القرآني العظيم. الثانية: اختلف النحاة في مجرور﴿ إِلَى﴾ في قوله: ﴿ إِلَى الَّليْلِ﴾ أيكون غاية لا يدخل في حكم ما قبلها ؟ أو يدخل فيه؟. فيه قولان: أحدهما: عدم دخوله، فإذا قلت: سرت من القصيم إلى الرياض، فإنك لم تدخل الرياض. والقول الآخر: أنه إن كان ما بعد ﴿إلى﴾ من جنس ما قبلها فهو داخل، وإلا فلا، مثال الجنس: اشتريت الغنم إلى آخرها، ومثال غير الجنس: سرت من الخرج إلى الرياض. وفي الآية الكريمة التي بين أيدينا:﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾ الليل غير داخل في الصيام قطعاً؛ لقوله الرسول  : ( إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا ، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) ، وهذا يؤيد قول الذين قالوا بعدم دخوله إذا لم يكن من جنس ما قبله؛ لأن الإفطار يكون بغروب الشمس، فالسنة الفطر إذا تبين الليل. فإذا ترك الصائم الأكل لعذر أو لشغل جاز ، وإن تركه قصداً لمواصلة الصيام فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: منهم من رآه جائزاً ، ومنهم من جعله مكروهاً ، والأكثر على أنه حرامٌ ؛ لما فيه من مخالفة الظاهر ، والتشبه بأهل الكتاب . والله أعلم. والمتأمل في قوله تعالى:﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾يجد أن الله تعالى قد قدم الخيط الأبيض على الخيط الأسود ؛ وذلك – والله تعالى أعلم- لأن السواد هو الأصل، فالليل ملتحف بوشاحه الداكن، والبياض طارئ عليه، ولما لم يكن المراد بالخيطين هما الحقيقيان . أتى بـ ﴿من﴾ البيانية، وكان الصحابي الجليل عدى بن حاتم الطائي – رضي الله عنه – قد فهم الآية على ظاهرها، فعمد إلى عقالين أسود وأبيض، فجعلهما تحت وسادته، ينظر إليهما في الليل، فلا يستبين له شيء، فقصد رسول الله ، فذكر له ذلك ، فقال: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار).

ﵟ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﵞ سورة البقرة - 187


Icon