الوقفات التدبرية

قوله تعالى ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ...

قوله تعالى ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ﴾ البقرة (233) . فيهذهالآية عدة تأملات : التأمل الاول : في قوله تعالى ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾ فهذه جمله خبرية معناها الامر ، فالتقدير : أيها الوالدات ارضعن أولادكن حولين كاملين ، والامر هنا أمر ندب لا ايجاب ، بدليل استحقاق الام الاجرة عليه ، ولقوله تعالى ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ﴾ الطلاق (6) ويصير واجبا اذا لم يقبل الصبى الا ثدى أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الاب عاجزا عن الاستئجار . وقيل : ان الخبر على معناه ، ويكون الكلام حينئذ أبلغ ، لأنه يدل على شيئين : الاول : أن هذا حق من حقوق الام ، لا ينبغي للمولود له ان ينازعها فيه . الثاني : انه حق على الام ، لا ينبغي لها ان تماطل به ، او تتخلى عنه ، او تساوم فيه . ويؤيد ذينك تقديم الاسم على الفعل ، والتعبير بالجملةالاسميةالتي تدل على الحصر ، فلو قيل : ( ترضع الوالدات أولادهن ) ما كان ملزما للام ، ولا للمولود له . والله اعلم . التأمل الثاني : في قوله : ﴿ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ فان ذكر المفعول به ﴿أَوْلَادَهُنَّ﴾ مع ان هذا مفهوم من السياق ، فيه تذكير لهن بدواعي الحنان والشفقة ، وأن هؤلاء الذين يحتاجون الى الرضاعة هم أولاد اولئك المرضعات الذين فطرن على حبهم والشفقة عليهم ، فكيف يعرضن عن ارضاعهم ؟ التأمل الثالث : في قوله ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ فان هناك فرق بين الاكمال والإتمام ، فالإكماللإزالة نقصان العوارض بعد اتمام الاصل ، والاتمام لإزالة نقصان الاصل ، كما سبق بيانه . فلماذا وصف الحولين بالكمال ، ووصف الرضاعة بالإتمام ؟ وصف الحولين بالكمال ، لان ﴿ الحول ﴾ لفظ يحتمل عدم الاكمال ، فلو قيل ﴿ حَوْلَيْنِ﴾ مجردا من الصفة ﴿كَامِلَيْنِ﴾ لم يدل على استكمالهما قطعاً ، اذ يمكن أن تقول : أقمت في مدينة الرياض حولين ، ولو لم تستكملهما ، فجعل الله تعالى الحولين الكاملين حداً عند اختلاق الابوين فيمدة الرضاعة ، فلا يحق للوالدة الامتناع عن ارضاع الولد قبل اكمال الحولين ، اما لو أراد الاب قطام ولده دون بلوغ الحولين فله ذلك ، ما لم يكن في ذلك ضرر على الولد ، أو مضارة للأم . ثم ان وصف الحولين بالمنال تنبيه على انه لا يجوز تجاوز ذلك ، وانه لا حكم للإرضاعبعدهما . اما استعمال الاتمام مع الرضاعة فلأن الفطام يمكن ان يحصل قبل استغراق المدة المعتادة ، ثم ان الرضاعة لا يمكن ان تكمل ، لان الطفل لو لم يقسر على الفطام لشب على حب الرضاع ، كما قال أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري : والنفس كالطفل ان تهمله شب على حب الرضاع وان تفطمه ينفطم التأمل الرابع : في قوله ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ لمَ لمْ يقل : وعلى الوالد ؟ قال العز بن عبد السلام : ( الجواب ان الولد ينفع أباه اكثر مما ينفع امه ، لان الولد يحمل أباه في المحافل ، ويدفع عنه في الحروب ، الى غير ذلك من النفع ، مما لا يحصل للأم ، فأراد سبحانه أن ينبه ب ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ على العلة التي لأجلها اختصت نفقة الولد بأبيه دون أمه ، ولأن اللام تستعمل في النفع ، فيقال : شهد له ،ومنه : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ فصلت (46) ،وهى هنا مشعرة بالنفع الحاصل من الولد . انتهى كلامه . واستعمال لفظ ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ بدلا من لفظ : الوالد ، أو الاب ، ليدل ايضا على اعلام الاب بفضل الله عليه ، حيث منحه الولد ، واعطاه اياه دون مشقة ، ولا نصب من الاب ، فالله وحده هو المتفضل به حين رزقه اياه ، واللام في قوله ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ معناها شبه التمليك ، فالولد شبه الملك لأبيه يتصرف في ماله وفى نفسه بما يختار غالباً ، وكذلك الولد يكون – غالباً- مطيعا لأبيه ، ممتثلا لما يأمر به ، منفذا ما يوصى به . كذا قال ابو حيان رحمة الله تعالى . واقول ايضا : ان التعبير ب ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ للدلالة على ان النفقة واجبه على من يكفل الوليد في حالة وفاة ابيه ، كجده ، أو كأخيه ، أو عمه ، او غير ذلك ، فالتعبير بهذه اللفظة اشمل من التعبير بالأب . والله أعلم .

ﵟ ۞ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﵞ سورة البقرة - 233

ﵟ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ۖ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ ﵞ سورة الطلاق - 6


Icon