الوقفات التدبرية

قوله تعالي : " وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ...

قوله تعالي : " وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) " النحل : 8 . عادةُ العربِ في كلامها أنْ تُؤَخِّرَ الأهمَّ للامتنان به إذا كانَ المقامُ مقامَ تَعْداد للفضائلِ والمكارمِ , لكنَّ ظاهرَ هذه الآيةِ يوحي بتقديمِ الأهمِّ , حيثُ قَدّمَ الخيلَ علي البغال , والبغالَ علي الحميرِ , فَلِمَ جاءَ الكلام في هذه الآية علي خلاف النسق المعروف عند العرب ؟ الجوابُ عن ذلك : أنَّ الآية سارتْ علي القاعدة , ولم تشذَّ عنها , فالحميرُ أهمُّ من الخيلِ والبغالِ , والبغالُ أهمُّ من الخيلِ ؛ نظرًا إلي أنَّ معظمَ الناسِ يستفيدونَ من الحميرِ حيث يقدرون عليها , ولا يقدرون علي الخيل , و يستطيع كثيرٌ من الناسِ الحصولَ علي البغالِ أكثرَ من استطاعتِهم الحصولَ علي الخيلِ , ومن هنا يتضحُ أنَّ الآيةَ لَم تخالفُ سَنَنَ العربِ في كلامها . والله اعلم . والمتأمّل لقوله تعالي : " لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً " يجد تنويعًا بالأسلوب ؛ فالركوبُ و الزينةُ علّتان لخلقِ هذه الدواب , لكنَّهُ عَبّرَ عن الركوبِ بالفعلِ , وَعَبَّرَ عن الزينةِ بالإسمِ المنصوب , وَيُعَلِّلُ النُّحَاةُ ذلك بقولهم : إن الزينةَ مفعولٌ لأجله , من الفعل في الآيةِ السابقه علي هذه الآية : " وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) " النحل : 5 حيث اتّحدَ المصدرُ مع العاملِ بالفاعلِ , ففاعلُ الخلقِ و التزيين هو اللهُ تعالي , ولذلك استوفي المصدرُ شروطَ النصبِ علي المفعولِ لأجله , فَنُصِبتْ " زِينَةً " , أما الركوبُ فَفاعلُهُ المخاطبون , فانتفى شرطٌ من شروطِ نصب المفعولِ لأجله من عدم اتّحاده مع عامِله بالفاعلِ , فجُرَّ باللامِ [ الكشاف : 2 / 402 ] , وهذا هو التعليلُ اللفظي لسياق الكلام . وللزمخشريّ تعليلٌ آخر حيث قال : " فإن قلتَ : فهلا وَرَدَ المعطوفُ والمعطوفُ عليه من سَنَنٍ واحدٍ , قلتُ :لأنّ الركوب فعلُ المخاطبين , وأمّا الزينة ففعلُ الزائن , وهو الخالق " [ المصدر السابق ] . أمّا التعليلُ المنظورُ فيه إلي المعني فهو أن يُقالَ : إنَّ المقصدَ الأساسَ من خلقِ هذه الدوابِّ هو الركوبُ , وهو يتجدّدُ مرّةً بعد أخري , وغيرُ ثابتٍ , ولذلك عَبّرَ عنه بالفعلِ , وجرّه باللامِ المفيدةِ للتعليل , أمّا الزينةُ فهي تابعةٌ لأهمِّ الغرضين , وهو الركوبُ , فجَعَلَهَا تبعًا , وعبّرَ عنها بالاسمِ الذي يدّلُ علي الثبوتِ و الدوامِ ؛ لأنَّ الزينةَ غيرُ متجدّدة . وأخيرًا تأمّلْ قوله : " وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " تجد الإعجاز عينه ؛ فالعربُ حين نزولِ القرآنِ الكريم لم تعرفْ غيرَ وسائلِ النقلِ المذكورةِ في الآيات , أمّا وسائلُ النقلِ الأخري فأشار الله تعالي إليها إشارةً بقوله : " وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " , ولذلك لا تعجَبْ حينَ تقرأُ بعض التفاسيرِ القديمة فتجدها لا تقطعُ بمرادِ اللهِ تعالي بهذه الآيةِ ؛ لأنَّ هؤلاء المفسرين لم يروا غيرَ تلك الوسائل المعهودة لديهم . والله واعلم . قوله تعالي : " قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)" [ النحل 26 ] . إذا تأمّل القارئ قوله تعالي : " فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ " فقد يبدو له أنّ قوله : " فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ " مغنٍ عن قوله : " مِنْ فَوْقِهِمْ " ؛ لأن " خَرَّ " و" عَلَيْهِمُ " و " السَّقْفُ " كلّها تدلّ علي حصول الخرِّ من فوقهم ؛ فالخرّ لا يكون إلا فيما سقط من العُلّوِ إلي الأسفل , و ﴿ علي ﴾ في أصل استعمالها تدلّ علي وقوع الشيء من أعلي إلي أسفل , والسقف أصله أن يكون في العُلّوِ. لكنّ المتدبّر لهذه الآية يدرك أنّ لقوله : " مِنْ فَوْقِهِمْ " فائدةً جليلةً ؛ إذ دلّتْ علي الفوقيّة الحقيقيّة , فالسقف قد وقع عليهم , وكانوا تحته , فهلكوا , وما أفلتوا [ البرهان فى علوم القرآن : 2 / 443 , 3 /67 ] , ولولا ذِكْرُ " مِنْ فَوْقِهِمْ " لَتُوُهِّمَ غيرُ ذلك ؛ لأنّ ﴿ علي ﴾ ليستْ قطعيّةً في الدلالة علي العلو , بل قد تكون هنا " بمعني ﴿ عن ﴾ , أي : خرّ عن كفرهم بالله , كما تقول : اشتكى فلانٌ عن دواءٍ شَربَهُ , أي : من أجل كفرهم أو بمعني ( اللام ) , أي فخرّ لهم " [ البرهان فى علوم القرآن : 2 / 442 ] , وذكر ابن جنّي أنّ ﴿ علي ﴾ قد تخرج عن الاستعمال في العلوم إلي الاستعمال في الأفعال الشاقّة المستثقلة " علي ﴿ حد ﴾ قولِ مَنْ يقول : قد سرنا عشرًا , و بقيت علينا ليلتان , وقد حفظتُ القرآن وبقيتْ عليّ منه سورتان , و قد صمنا عشرين , و بقي علينا عشرٌ , وكذلك يقال في الاعتداء علي الإنسان بذنوبه وقبيح أفعاله : قد أخربَ عليَّ ضيعتي , وموّت عليَّ عواملي , وأبطلَ عليَ انتفاعي , فعلي هذا لو قيلَ " فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ " , ولم يقل : " مِنْ فَوْقِهِمْ " لجاز أن يُظنَّ به أنه كقولك : قد خرّبتُ عليهم دارَهُمْ و قد أهلكتُ عليهم مواشيَهُمْ وغلاتِهِمْ , وقد تلفتْ عليهم تجارتُهُمْ , فإذا قال : " مِنْ فَوْقِهِمْ " زال ذلك المعني المحتمل , وصار معناه أنّه سقط وهم من تحته " [ الخصائص : 2 / 270 – 271 ] , ويؤيّد ذلك أنّه يقال : سقط عليه موضع كذا , إذا كان يملكه , وإن لم يكن من فوقه , بل تحته [ البرهان فى علوم القرآن : 2 / 443 ] . كما أنّه ليس كلّ سقفٍ يكون من فوقٍ ؛ " فإن كثيرًا من السقوف يكون أرضًا لقومٍ , وسقفًا لآخرين " [ البرهان فى علوم القرآن : 3 / 67 ] , فرفع احتمال أن يكون السقف تحتهم بقوله : " مِنْ فَوْقِهِمْ " . والله أعلم .

ﵟ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﵞ سورة النحل - 8

ﵟ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﵞ سورة النحل - 5

ﵟ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﵞ سورة النحل - 26


Icon