الوقفات التدبرية

قوله تعالى : " فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ...

قوله تعالى : " فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) " [ الكهف : 77 ] . حيث كرَّر كلمةَ " أَهْلَ " , فقال : " اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا " بعد قوله : " أَهْلَ قَرْيَةٍ " ؛ لأنه لو قال : ( استطعماهم ) – بالإضمارِ دونَ الإظهارِ – لعادَ الضميرُ على " أَهْلَ " الأولي , فيكونُ مدلولُهُ مدلولَ الأوّلِ , وهذا غيرُ ممكنٍ ؛ لأنَّ " أَهْلَ " الأولى يرادُ بها جميعَ أهلِ القريةِ , فالمقصودُ بالإتيان الوصولُ إليهم , كما يقولُ القائلُ : أتيتُ أهلَ مِصْرَ , وهو يقصدُ أنّه وصلَ إليهم , أما " أَهْلَ " الثانية فقد وقعتْ معمولًا للفعلِ " اسْتَطْعَمَا " , وهو فعلٌ خاصٌّ , فلو قال( استطعماهم ) لتوهّمَ السامعُ أو القارئ أنّهما طافا على جميعِ بيوتِ القرية , يسألانهم طعامًا , فلم يطعموهم , وهذا بعيدٌ , فالاستطعامُ إنّما يكونُ لمن يَنْزِلُ الضيفُ قريبًا من ديارهم , و لأجل ذلك أعادَ كلمة " أَهْلَ " مرّةً أخرى . ثُمّ إنَّها من الناحيةِ الإعرابيّةِ لا تستقيمُ إلا كما وَرَدَتْ في القرآن الكريم ؛ فجملةُ " اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا " جواب للشرط : ﴿ إذا ﴾ , وحينئذ إما أن يقول : ( أهل قرةه استطعماهم ) فتخلو الجملةُ من ضميرٍ يعودُ على القرية , ولو أتى بضميرٍ يعودُ إلى القرية , فقال : ( أهل قرية استطعامها ) , لنَسَبَ الاستطعامَ إلى القريةِ , وهذا غيرُ جائز واللهُ أعلمُ . قوله تعالى : " ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) " [ الكهف : 82 ] . بعدَ قوله تعالى : " هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) " [ الكهف : 78 ] . ( تَسْطِيعُ ) أخفُّ مِنْ ﴿ تَسْتَطِيعُ ﴾ قال العباس بن الأحنف : أشكو إليكِ الذي بي يا معذّبتي ... وما أقاسي وما أستطيعُ أن أصفِا وقال عبيد بن الأبرص : كأن صبًا جاءتْ بريحٍ لطيمةٍ ... من المسك لا تُسْتطاعُ بالثمن الغالي فالزيادة في المبنى تدلّ على الزيادة في المعنى , وفي هاتين الآيتين " قَابَلَ الأثْقَلَ بالأثْفَلِ , والأخفَّ بالأخفِّ , كما قال : " فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ " , وهو الصعود إلى أعلاه , " وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) " [ الكهف 97 ] , وهو أشق , فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى . والله اعلم وقد يقول قائل : إن هذا واضح في الآية الاخيرة , فكيف هو في الآيتين الأوليين ؟ فأقول : لما كان موسى - عليه السلام - غير عارف بأسباب أعمال العبد الصالح الغريبة : خرق السفية , وقتل الغلام , وبناء الجدار دون اجرة , كان يرى تلك الأعمال بالغة الفظاعة والغرابة , ناسب أن يخاطبه العبد الصالح بما يلائم حاله , فقال : " سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) " , فلما أبدي له أسبابها قال له : " ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) " , أي : إن الأمر أيسر مما كنت تظن . والله اعلم .

ﵟ فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﵞ سورة الكهف - 77

ﵟ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﵞ سورة الكهف - 82

ﵟ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﵞ سورة الكهف - 78

ﵟ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﵞ سورة الكهف - 97


Icon