الوقفات التدبرية

قوله تعالى عن يحيى - عليه السلام - : " وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ...

قوله تعالى عن يحيى - عليه السلام - : " وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) " مريم 15 , وقوله تعالى على لسان عيسى - عليه السلام - : " وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) " مريم 33 . فإن تحية يحي - عليه السلام - بدئت بالسلام نكرة , حيث قال : " وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ", أما تحية عيسى - عليه السلام - فقد بدئت بالسلام معرفة , حيث قال : " وَالسَّلَامُ عَلَيَّ " , و السر في ذلك - والله اعلم - أن السلام دعاء وطلب , و العرب في ألفاظ الدعاء والطلب تأتي بها نكرة , فتقول : ويلٌ له , وسقيا لك ورعيا ؛ لأن ألفاظ الدعاء تجري مجرى النطق بالفعل , والفعل بمعنى النكرة , فـ﴿ سلام عليكم ﴾ بمعنى : سلمكم الله , و ( سقيا لك ) بمعنى : سقاك الله , وهكذا , فالأصل في التحية أن تكون بلفظ النكرة , إلا أننا نجد أن تحية عيسى - عليه السلام - بدئت بالمعرفة , و لذلك فوائد منها : أن السلام اسم من أسماء الله , فذكره يشعر بذكر الله سبحانه وتعالى , ويشعر أيضا بطلب معنى السلامة منه , لأنك متى ذكرت اسما من أسماء الله فقد تعرضت لطلب المعنى الذي اشتق ذلك الاسم منه , ويشعر أيضا بعموم التحية , و أنها غير مقصورة , فأنت ترى أنه ليس قولك : ﴿ سلام عليك ﴾ – أي : سلام مني – بمنـزله قولك : ﴿ السلام ﴾ في العموم , كذا قال أبو القاسم السهيلي في : كتابه ( نتائج الفكر في النحو ) . و هذا إذا كانت التحية من الإنسان , أما إذا كانت من الله تعالى كتحيه ليحيى - عليه السلام - فليست بحاجة إلى التعريف ؛ لعدم قصد التبرك , ولا التعرض , ولا الطلب , ولا العموم في التحية منه ومن غيره , كما يقصد العبد , فسلام من الله تعالى كاف من كل سلام , ومغن عن كل تحيه , ومرب على كل أمنيه . وأحب أن أشير إلى أن على الكاتب والمتحدث أن يبدءا كلامهما بقول : ( سلام من الله عليكم ), فيبءا بالنكره , ويختماه بقول : ( والسلام عليكم ) ؛ بالمعرفه , و السر في ذلك أن هناك إجماعا من العلماء على ابتداء الكتابة و الحديث بالسلام نكرة , و اختتامهما به معرفة , ذكر ذلك السهيلي أيضا , وذكر في تعليله : " أنها مشعرة بالعموم , والكاتب مؤكد لخصوص نفسه بالتسليم , مشعر بسلامة وده للمكتوب إليه , لاسيما عند افتتاح الكلام ؛ ليستشعر المكتوب إليه الأنس والسلامة من الكاتب على الخصوص , من غير التفات إلى طلب العموم , وهذا المعنى كله إنما يحصل بإسقاط ( الألف واللام ) . فإذا ختم الرسالة قال : ( والسلام عليك ) معرفا ؛ وذلك لثلاث فوائد : إحداها : أن الخصوص بسلام الكاتب قد حصل في أول الكتاب , ووقع الأنس به , فكان العموم هنا أبلغ في الدعاء ؛ فإنه لا يخص نفسه , بل يجمع له سلامه وسلام غيره . والفائدة الثانية : أن يختم باسم من أسماء الله تعالى , كما فعل في الصلاة ؛ طلبا للأجر , وتبركا بالذكر , و اكتفي في أول الرسالة بـ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ , و حسبك به ذكرا . والفائدة الثالثة : بديعة جدا , وهي أن ( الواو ) العاطفة توجب بناء الكلام على ما تقدم ... فأشعرت الواو بعطف فصل على فصل من الكتاب , فلما فرغ منها قال : ﴿ والسلام ﴾ , يريد : وبعد هذا كله ( السلام عليك ) . و في الآيتين السابقتين قيد السلام على يحيى وعيسى - عليهما السلام - بيومي ولادتهما ويومي موتهما ويومي بعثهما , فما السر في ذلك ؟ قال ابن القيم - رحمه الله تعالى – : " إن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظانُّ العطب و مواطن الوحشة , وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة , وتعلقت بها الهمة , فذكرت هذه المواطن الثلاثة ؛لأن السلامة فيها آكد , وطلبها أهم , والنفس عليها أحرص ؛ لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقرا فيها , موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات و المحن والبلاء .

ﵟ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﵞ سورة مريم - 15

ﵟ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﵞ سورة مريم - 33


Icon