الوقفات التدبرية

قوله تعالى عن زلزلة الساعة : " يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ...

قوله تعالى عن زلزلة الساعة : " يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) " الحج : 2 . الأصل في تاء التأنيث أن يؤتي بها للفرق بين المذكر والمؤنث , فيقال : مسلم ومسلمة , فإذا كان الوصف خاصا بالمؤنث لا يشترك معه المذكر فيه لم تدخل عليه التاء , مثل : حائض , وطالق , وعانس , ومرضع , وحامل , فلا يقال : حائضة , ولا طالقة , ولا عانسه , ولا مرضعه ؛ لأن المقصود : ذات حيض , وذات طلاق , وذات عنوسة , وذات إرضاع , وذات حمل . ولكن في هذه الآية الكريمة قال : " تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ " , و السبب في ذلك أن المقصود بالمرضعة هنا التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها صبيها , والمرأة في هذه الحالة تكون أشد شفقة وعطفا ومحبة لولدها الذي ترضعه , فذهولها عنه يكون لهول ما فوجئت به وشدة فزعها من زلزلة الساعة , ويؤيده قوله : " عَمَّا أَرْضَعَتْ " , فهي لم تفعل ذلك إلا لأمر هو أعظم عندها من الاشتغال بالإرضاع . أما كلمة مرضع فلا تغني عن " مُرْضِعَةٍ " في حصول المراد ؛ لأن المرضع هي المهيئة للإرضاع , ولو لم تكن مباشرة للإرضاع في ذلك الوقت , وهذه قد تذهل عن رضيعها إذا كانت غير مباشرة للرضاعة في حينه , ومثله لفظ الحائض , فقد روت عائشة - رضي الله عنها وعن والدها - قول النبي - صلى الله عليه و سلم – " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " , فليس المراد هنا بالحائض التي في حالة حيض , لأن هذه لا يقبل الله صلاتها لا بخمار ولا دونه ؛ إذ لا صلاة عليها , و إنما المراد بالحائض هنا البالغة سن الحيض . وأما قوله تعالى : " وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا " فقد قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - : " تأمل - رحمك الله - السر البديع في عدوله سبحانه عن ( كل حامل ) , [ أي عن أن يقول : ( وتضع كل حامل ) ] , إلي قوله : " ذَاتِ حَمْلٍ " ,فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل , وعلى من هي في أول حملها ومباديه , فإذا قيل : " ذَاتِ حَمْلٍ " لم يكن إلا لمن قد ظهر حملها , وصلح للوضع كاملا , أو سقطا , كما يقال : ذات ولد .. فأتي في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع " . ولا شك في أن الحامل إذا كان حملها في أواخره ففقده أشق عليها وأعظم في الخسارة , بخلاف ما إذا كان في مباديه , فإنه أيسر عليها وأقل اثرا في نفسها , فالتعبير بـ ﴿ ذات حمل ﴾ لبيان كبره , ومن ثم فإن ما يشغلها ويذهلها عن مشقة فقده وأثره في نفسها , لهو أعظم منه ولا ريب , فقيام الساعة أنساها قيمة حملها وألم إسقاطه . والله اعلم . وهكذا يتضح مدى شدة زلزلة الساعة ؛ فإن شفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب , فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره , و كل ذلك يدل بدلالة الأولى على ذهول غيرها من النساء والرجال , وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدة الهول , وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم ؛ لأن دلالة الكناية عقلية , وليست لفظية " .

ﵟ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﵞ سورة الحج - 2


Icon