الوقفات التدبرية

قوله تعالى : " إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ...

قوله تعالى : " إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) " [ النمل : ٨٠ ] . التولية غير الإدبار ؛ فالتولية في الأصل : الإقبال ، ومنه قوله تعالى : " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ " [ البقرة : ١٤٤ ] . ، لكنها إذا أطلقت دون ذكر لمفعولها أريد بها أن يولى الشئ ظهره . وأما الإدبار فهو أن يهرب منه ، فليس كل مول مدبرا ، ولا كل مدبر موليا ، وفى الآية العظيمة أكد المولى – عز وجل - عدم انتفاع الكفار بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات : فشبههم بالصم ، والأصم لو كان مقبلا لم يسمع ، وأكد سوء حالهم بأن جعلهم مولين ، والأصم إذا ولى كان أبعد له من السماع ، ثم زاده تأكيدا بأن جعلهم مدبرين ، والأصم المولى إذا أدبر كان أشد ؛ لبعده عن السماع . والله أعلم . قوله تعالى : " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) " [ القصص : ٢٠ ] . ففى هذه الآية الكريمة قدم كلمة " رَجُلٌ " على الجار والمجرور " مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ " ، فقال " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ " ، وفى سورة يس قال تعالى : " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ " [ يس : ٢٠ ] ، فقدم الجار والمجرور " مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ " على الفاعل " رَجُلٌ " ، ولكل من الحالتين فائدة بليغة : وسبب ذلك أنه فى آية القصص جاء فاعل ، وهو " رَجُلٌ " مقدما على الجار والمجرور " مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ " حسب الأصل ، ولكون " رَجُلٌ " نكرة وصفه بأنه قادم من بعيد ليعلمه ما كان فيه الكفار من ائتمار به . أما فى آية يس فالمراد تقريع أصحاب القرية الذين كفروا بالمرسلين ، وكذبوهم ، وتبكيتهم على استمرارهم فى الكفر مع ما شاهدوه من الآيات المعجزة ، ومن مظاهر توبيخهم وتقريعهم أن يأتى من أقصى المدينة ، من ذلك المكان البعيد الذى لم يشهد المعجزات ، ولم تتل فيه الآيات ، أن يأتى هذا الرجل الذى لم يحضر جميع ما حضره الكفار ، ولم يسمع مثل ما استمعوه ، ولم ير من المعجزات ما رأوه ، ومع ذلك يؤمن هو ، وهم يكفرون ، ويدعو هو إلى الإيمان ، ويتنادون هم بالكفر ، فنظر إلى أهمية بعده عن مواطن الدعوة قدم بيان مكانه على ذكره هو . والله أعلم . وبهذه المناسبة أنبه على أن قول كثير من الناس عن الأمر الذي يشم من ورائه مكيدة وائتمار بشر : ( هذا الأمر فيه ﴿ إن ﴾ أنه مأخوذ من آية القصص : " إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ " ، ومما يروى فى ذلك أن محمود بن صالح بن مرداس صاحب حلب أمر كاتبه أبا نصر محمد بن الحسين بن على النحاس الحلبى أن يكتب كتابا إلى سديد الملك أبى الحسن على بن مقلد بن نصر بن منقذ الكنانى ، يتشوقه فيه ، ويستعطفه ، ويستدعيه إليه ، وكان سديد الملك صديقا للنحاس الحلبي ، وكان الحلبى يعرف أن سيده يريد بصديقه شرا ، فكتب كما أمره سيده ، إلى أن بلغ آخر الكتاب ، وكان قوله : ﴿ إن شاء الله ﴾ ، فشدد الكاتب نون ﴿ إن ﴾ ، وفتحها ، فصارت ﴿ إن ﴾ . فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على بن عمار صاحب طرابلس ومن بمجلسه من خواصه ، فأستحسنوا عبارة الكاتب ، واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه ، وإيثاره لقربه ، فقال سديد الملك : إنى أرى فى الكتاب ما لا ترون . ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال ، وكتب فى جملة الكتاب : ( أنا الخادم المقر بالإنعام ) ، وكسر همزة ﴿ انا ﴾ وشدد النون ، فصارت : ( إنا الخادم المقر بالإنعام ) . فلما وصل الكتاب إلى محمود ، ووقف عليه الكاتب النحاس الحلبى ، سر بما فيه ، وقال لأصدقائه : قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك ، وقد أجاب بما طيب نفسي . وكان الكاتب النحاس الحلبى قد قصد قول الله تعالى : " إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ " فأجاب سديد الملك بقوله تعالى : " إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا " [ المائدة : ٢٤ ] .

ﵟ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﵞ سورة النمل - 80

ﵟ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﵞ سورة البقرة - 144

ﵟ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﵞ سورة القصص - 20

ﵟ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﵞ سورة يس - 20

ﵟ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﵞ سورة المائدة - 24


Icon