الوقفات التدبرية

قوله تعالي : " يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ...

قوله تعالي : " يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) " [ سبأ : 13 ] . الشكر : الامتلاء من ذكر المنعم عليه , والشكر ثلاثة أنواع : شكر القلب : وهو تصور النعمة , وشكر اللسان : وهو الثناء على المنعم , وشكر سائر الجوارح : وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه , وبناء على هذا يكون فى هذه الآية وقفتان : أولاهما : أن الله تعالى قال : " اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا " , ولم يقل : " اشكروا " , قال الراغب الأصفهاني : " لينبه على التزام الأنواع الثلاثة من الشكر بالقلب , واللسان , وسائر الجوارح " , فيكون إعراب " شُكْرًا " فى الآية على هذا القول مفعولا مطلقا . وقيل : إنها مفعول لأجله . ثانيتهما: أنه قال : " وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " , قال الزركشي : " الحمد لله الذي ما قال : ﴿ الشاكر ﴾ " ؛ لأن الشاكر هو المُثنى بالقليل والكثير , أما ﴿ شكور ﴾ فصيغة مبالغة بمعني : الموفي نعم الله حقها من الشكر , ولذلك وصف الشكورين بالقلة ؛ لأن توفيه نعم الله بالشكر صعبة الحصول , فهي كثيرة , ومهما حاول العبد شكرها فسيظل مقصرا . قال عبدالله بن المقفع : " قد بلغ فضل الله على الناس من السعة , وبلغت نعمته عليهم من السبوع , ما لو أن أخسهم حظا , وأقلهم من نصيبا , وأضعفهم علما , وأعجزهم عملا , وأعياهم لسانا , بلغ من الشكر له , والثناء عليه بما خلص إليه من فضله , ووصل إليه من نعمته , ما بلغ له منه أعظمهم حظا , وأوفرهم نصيبا , وأفضلهم علما , وأقواهم عملا , وأبسطهم لسانا , لكان عما استوجب الله عليه مقصرا , وعن بلوغ غاية الشكر بعيدا , ومن أخذ بحظه من شكر الله , وحمده , ومعرفة نعمه , والثناء عليه , والتحميد له , فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله القربة عنده , والوسيلة إليه , والمزيد فيما شكره عليه من خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة " . وقال الراغب الأصفهاني : " ولذلك لم يثن – أي الله – بالشكر من أوليائه إلا على اثنين : قال فى ابراهيم – عليه السلام - : " شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ " النحل : 121 . , وقال فى نوح : " إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا " الاسراء : 3 . فمدح ابراهيم بأنه مثن على نعم الله , ومدح نوحا بأنه مبالغ فى الثناء عليها . ويحسن فى هذا المقام أن أشير إلى فائدة المغايرة بين الصفتين فى قوله تعالى : " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) " الانسان : 3 . سأل الصاحب بن عباد القاضي عبدالجبار بن احمد المعتزلي : لم جعل الله المبالغة فى الكفر , ولم يجعلها فى الشكر ؟ " فأجاب القاضي بأن نعم الله علي عباده كثيرة , وكل شكر يأتي في مقابلتها قليل , وكل كفر يأتي فى مقابلتها عظيم , فجاء الشكر بلفظ ﴿ فاعل ﴾ , جاء ﴿ كفور ﴾ بلفظ فعول على وجه المبالغة " . وكتب صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي إلى العلامة جمال الدين السبكي قائلا : عندي جمال الدين مسألةٌ غدا = تبيانها فيما لديك محرّرا إذ أنت من بيتٍ جميع بنيه قد = فازوا بما حازوا وقد سادوا الورى إن جاودوا ألفيتهم صوب الحيا = أو جادلوا أبصرتهم أُسد الشّرى فاطلع بأُفق الفضل شمساً أشرقت = لا ترض أنّك فيه بدرٌ أسفرا وأعد جوابي عن سؤالي إنّه = لك واضحٌ أن رحت فيه مفكّرا فكّرت والقرآن فيه عجائبٌ = بهرت لمن أمسى له متدبّرا في هل أتى لم ذا أتانا شاكراً= حتى إذا قال الكفور تغيّرا فالشكر فاعله أتى في قلّةٍ = والكفر فاعله أتى متكثرا فعلام ما جاءا بلفظٍ واحدٍ = إن التوازن في البديع تقرّرا لكنّها حكمٌ يراها كل ذي = لبٍّ وما كانت حديثاً يفترى فأجبه لا زلت الجواد بفضله = لمن استعان به لإشكالٍ طري فأجابه السبكي قائلا : قبّلت أسطر فاضلٍ بهر الورى ... ممّا لديه عجائبٌ لن تحصرا قد نال في علم البلاغة رتبةً ... عنها غدا عبد الرّحيم مقصّرا وأراد منّي حلّ مشكلة غدا ... تبيانها عندي كصبحٍ أسفرا وجوابه أنّ الكفور ولو أتى ... بقليل كفرٍ كان ذاك تكثّرا بخلاف من شكر الإله فإنّه ... بكثير شكر لا يكون مكثّرا فإذاً مراعاة التوازن ههنا ... محظورةٌ لمن اهتدى وتفكّرا فاصفح فعجزي عن جوابك ظاهرٌ ... كظهور ما بين الثّريّا والثّرى

ﵟ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﵞ سورة سبأ - 13

ﵟ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﵞ سورة النحل - 121

ﵟ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﵞ سورة الإسراء - 3

ﵟ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﵞ سورة الإنسان - 3


Icon