الوقفات التدبرية

قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ...

قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ﴿ 48 ﴾﴾ [الشورى: 48] . سبق أن وضحت الفرق بين ﴿إذا﴾ و﴿إن﴾ الشرطيتين، وإذا تأملت هذه الأية وجدت ﴿ إِذَا﴾جاءت مع الرحمة، ووجدت ﴿ إِنْ﴾جاءت مع السيئة؛ وذلك –والله أعلم- لتغليب رحمة الله على عذابه، ولأن ما يعفو عنه الله أكثر، ثم إن هذا الاستعمال يدل على مدى كفران الإنسان لنعم الله؛ فالله قد غمره بالنعمة والرحمة في أكثر أحواله، وحين يقدر المولى –عز وجل- على المرء أن تصيبه سيئة عابرة بسبب ما قدمته يداه، يظهر معدنه الأصلي، فيكفر، ويجزع، وصدق الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ [هود: 9], ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34], ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾[الإسراء: 83], ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُور﴾ [الحج: 66], ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿19﴾إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿20﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿21﴾إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 19-22] . وقد أشار أبن القيم – رحمة الله- إلى شيء من صور الجمال الأسلوبي في هذه الآية فقال: "وأتي في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الوقوع :﴿أَذَقْنَا﴾،﴿فَرِحَ بِهَا﴾, وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ﴿ تُصِبْهُمْ ﴾. وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة ﴿أَذَقْنَا ﴾الدال على مباشرة الرحمة لهم، وأنها مذوقه لهم، والذوق هو أخص أنواع الملابسة، وأشدها. وكيف أتى في الرحمة بحرف ابتداء الغاية مضافة إليه، فقال: ﴿ مِنَّا رَحْمَةً ﴾وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم:﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾. وكيف اكد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف ﴿إِنَّ﴾دون الجملة الثانية. وأسرار القرآن أكثر وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر. وتأمل قوله تعالى:﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 67].كيف أتى بـ ﴿إِذَا﴾ههنا لما كان مس الضر لهم في البحر محققا، بخلاف قوله: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾[فصلت: 49],فإنه لم يقيد مس الشر هنا، بل اطلقه، ولما قيده بالبحر الذي هو متحقق فيه ذلك أتى بأداة﴿إِذَا﴾. وتأمل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾[الإسراء: 83] كيف أتى هنا بـ ﴿إِذَا﴾المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس؛ فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الشر له، فكان الإتيان بـ﴿إِذَا﴾ههنا أدل على المعنى المقصود من ﴿إن﴾ بخلاف قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴿51﴾﴾[فصلت: 51]؛فإنه بقلة صبره وضعف احتماله متى توقع الشر أعرض، وأطال في الدعاء، فإذا تحقق وقوعه كان يؤوساً. ومثل هذه الأسرار لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله، وفهم يؤتيه عبدا في كتابه".

ﵟ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ﵞ سورة الشورى - 48

ﵟ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﵞ سورة هود - 9

ﵟ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﵞ سورة إبراهيم - 34

ﵟ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﵞ سورة الإسراء - 8

ﵟ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﵞ سورة الإسراء - 83

ﵟ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﵞ سورة الحج - 66

ﵟ ۞ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﵞ سورة المعارج - 19

ﵟ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﵞ سورة المعارج - 20

ﵟ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﵞ سورة المعارج - 21

ﵟ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﵞ سورة المعارج - 22

ﵟ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﵞ سورة فصلت - 49

ﵟ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﵞ سورة فصلت - 51


Icon