الوقفات التدبرية

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ...

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿5﴾﴾ [الجاثية: 3-5] . يظن بعض العلماء أن فواصل الآيات، وهي خواتيمها، ذات فوائد لفظية فقط، فتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها. لكن هذا غير سديد، بل إنلها فوائد مزدوجة في آن واحد: لفظية ومعنوية، نقل عن الزمخشري: "أنه لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سدادها على النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه، كما لا يحسن تخير الألفاظ المونقة في السمع السلسلة على اللسان إلى مع مجيئها منقادة للمعاني الصحيحة المنتظمة، فأما أن تهمل المعاني، ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مؤداه على بال، فليس من البلاغة في فتيل أو نقير، ومع ذلك يكون قوله: ﴿وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4], وقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3].لا يتأتي فيه ترك رعاية التناسب في العطف بين الجمل الفعلية إيثارا للفاصلة؛ لأن ذلك أمر لفظي لا طائل تحته، وإنما عدل إلى هذا لقصد الاختصاص". وتأمل هذه الآيات الثلاث من سورة الجاثية والتي هي موضع النظرة، تجد أن ختام كل واحدة منها تتناسب مع مبتداها، لكن إدراك المناسبة يحتاج إلى إعمال ذهن، وقد فصلها الزركشي رحمة الله, فقال :" إن البلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى: ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ لأنه -سبحانه- ذكر العلم بجملته، حيث قال﴿السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ومعرفة الصانع من الآيات الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم، وإن دل على وجود صانع مختار لدلالاتها على صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته، فلابد أولا من التصديق بذاته حتى تكون هذه الآيات دالة على صفاته؛ لتقدم الموصوف وجودا واعتقادا على الصفات. وكذلك قوله في الآية الثانية:﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾فإن سر الإنسان وتدبر خلقه الحيوان، أقرب إليه من الأول، وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول. وكذلك معرفة جزئيات العالم، من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، يقتضي رجاحة العقل، ورصانته؛ لنعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي، التي هي أجرامه وعوارض عنه، ولايجوز أن يكون بعضها صنع بعضاً؛ فقد قام البرهان على أن للعالم الكلي صانعاً مختاراً، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾،وإن احتيج إلى العقل في الجميع، إلا أن ذكره ههنا أنسب بالمعنى الأول؛ إذ بعض من يعتقد﴿أن الله﴾ صانع العالم ربما قال: إن بعض هذه الآثار يصنع بعضاً، فلابد إذا من التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل" .

ﵟ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ﵞ سورة الجاثية - 3


Icon