الوقفات التدبرية

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا...

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 27] . جعل أبو علي الفارسي ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ﴾ مفعولا به لفعل محذوف يفسره العامل المذكور بعده: ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾، والواو عند للاستئناف، وليست ﴿رَهْبَانِيَّةً﴾ معطوفة على ﴿ رَأْفَةً ﴾، قال في كتابه( الإيضاح العضدي): "فقوله: ﴿رَهْبَانِيَّةً ﴾ محمول على فعل، كأنه قال: (وابتدعوا رهبانية ابتدعوها)، ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على ﴿جَعَلْنَا﴾ مع وصفها بقوله: ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾؛ لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم". وتبع الزمخشري أبا على الفارسي في إعرابه، وذكر قراءة الرفع لـ﴿ رَأْفَةً ﴾، لكنه فسرقوله: ﴿جَعَلْنَا﴾ بـ (وفّقنا)، فقال: "أي: وفّقناهم للتراحم والتعاطف بينهم". وهذا الاعراب منها مرجعه كونهما من المعتزلة، وهم يقولون: ما كان من أفعال العباد فلا يكون مخلوقا لله، فالرأفة والرحمة من خلق الله، والرهبانية من ابتداع الإنسان، فهي مخلوقة له، وهم يعتقدون أن ما يفعله الإنسان لا يفعله الله تعالى، ولايخلقه. قال ابن المنير –رحمه الله- : " في إعراب هذه الآية تورط أبو علي الفارسي، وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة، فأعرب﴿رَهْبَانِيَّةً﴾ على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر، وعلل امتناع العطف، فقال: (ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على ﴿جَعَلْنَا﴾، مع وصفها بقوله: ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾؛ لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم). والزمخشري ورد أيضا مورده الذميم، وأسلمه شيطانه الرجيم، فلما أجاز مامنعه أبو علي من جعلها معطوفة أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى التوفيق فرارا مما فر منه أبو علي من اعتقاد أنذلك مخلوق الله تعالى، وجنوحا إلى الإشراك واعتقاد أنّ ما يفعلونه هم لا يفعله الله تعالى، ولا يخلقه، وكفى بما في هذه الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه؛ فإنه ذكر محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها القلب، فجعل قوله: ﴿ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾ تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله، ولوكان المراد أمرا غير مخلوق في قلوبهم لله تعالى –كما زعما- لم يبق لقوله: ﴿ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾ موقع" وأقول: إن هذا الإعراب من الفارسي والزمخشري باطل، ولا يستقيم على قواعد اللغة؛ لأن جعل هذه الآية من باب النصب على الاشتغال غير صحيح؛ فمن شروط الاسم المشتغل عنه أن يكون مختصا؛ ليصح رفعه بالابتداء، والمبتدأ لا يكون إلا معرفة، أو نكرة مختصة، أما في هذه الآية فـ﴿رَهْبَانِيَّةً﴾ نكرة غير مختصة، فلا يصح أن تكون من باب الاشتغال، وإنما الإعراب الصحيح لها أن تكون الواو عاطفة، و﴿رَهْبَانِيَّةً﴾ معطوفة على ﴿ رَأْفَةً ﴾، ووصفت (الرهبانية) بجملة ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾؛ لأن الرأفة والرحمة في القلب، ولا تكسب للإنسان فيهما، بخلاف الرهبانية فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضع للتكسب. والله أعلم.

ﵟ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﵞ سورة الحديد - 27


Icon