الوقفات التدبرية

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ...

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾[المنافقون: 4]. إن الآية جاءت في بيان بعض صفات المنافقين, وهي أنهم لا يفقهون, وأنهم لا يعقلون, مع أن أجسامهم حسنة معجبة, ولذلك شبههم بالخشب المسندة, فشبه هيئة جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلممستندين على الجدار, يتحدثون, ويبدون الاستماع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, شبه هذه الهيئة بالخشب, لأنها ذات أجسام بينة في الصورة, ولكنها خالية من العقل, بعيدة عن الفهم, ولتقارب شكلها مع شكل الإنسان شببهم الله تعالى بها, ولم يشبههم بالحجارة؛ لفارق الشبه, وتأملوا وصف الخشب بقوله: ﴿مُسَنَّدَةٌ ﴾؛ لأن الخشب يمكن أن تفيد إذا سقف بها المكان, لكنها إذا سندت لم يستفد منها في تلك الحالة, والمنافقون مثل الخشب غير المفيدة, فشبههم بخشب نخرة متآكلة, إلا أنها مسندة, يحسب من رآها أنها صحيحة. ثم إن تشبيهم بها في تلك الحالة إشارة إلى هيئة مقامهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين إلى الجدار دون جلوس؛ لعدم حرصهم على الاطمئنان عند المصطفى عليه الصلاة والسلام. أما وصف الخشب مع أنها جمع بقوله: ﴿مُسَنَّدَةٌ ﴾, وهي مفردة, حقها أن يوصف بها المفرد, فيقال: خشبة مسندة, فالسبب في ذلك أن الجمع إذا كان دالاً على الكثرة وصف بالمفرد, كما هو الحال في هذه الآية, فالخشب على زنة ﴿فُعُل﴾, وهو من أوزان جمع الكثرة, ووصفها بالمفرد يدل على الكثرة كذلك, أما الوصف بما جمع بألف وتاء فيدل على القلة, فلو قيل: خشب مسندات, لحصل تناقض, فـ ﴿خُشُبٌ ﴾ تدل على الكثرة, و(مسندات) تدل على القلة, قال الحريري في (درة الغواص في أوهام الخواص): "وكذلك اختاروا – أي العرب- أيضاً أن ألحقوا بصفة الجمع الكثير الهاء,فقالوا: أعطيته دراهم كثيرة, وأقمت أياماَ معدودة, وألحقوا بصفة الجمع القليل الألف والتاء, فقالوا: أقمت أياماً معدودات, وكسوته أثواباً رفيعات". ولذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾[البقرة: 80], وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾[آل عمران: 24]: " إن قائلي ذلك اليهود فرقتان : إحداهما قالت:إنما نعذب بالنار سبعة أيام، وهي عدد أيام الدنيا، وقالت فرقة : إنما نعذب أربعين يوما، وهي أيام عبادتهم العجل، فآية (البقرة) تحتمل قصد الفرقة الثانية، وآية (آل عمران ) تحتمل قصد الفرقة الأولى", وقال الحريري: "كأنهم قالوا أولاً بطول المدة, ثم إنهم رجعوا عنه, فقصروا المدة". وفي آية سورة ﴿المنافقون﴾ مدار النظرة تأمل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ ﴾ إذ أتى بـ﴿ إِذَا ﴾ التي تدل على تأكيد حصول الرؤية, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يراهم دائما, ولم يأت بـ﴿إن﴾التي تدل على الاحتمال والشك, لكنه عن قولهم أتى بـ﴿إِنْ﴾بعد ذلك, فقال: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ الدالة على قلة كلامهم, أو على عدم اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم, والأول أرجح. والله أعلم.

ﵟ ۞ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﵞ سورة المنافقون - 4

ﵟ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﵞ سورة البقرة - 80

ﵟ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﵞ سورة آل عمران - 124


Icon