الوقفات التدبرية

بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء قال تعالى...

بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء قال تعالى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ المائدة﴿53:52﴾ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ تأملوا قوله تعالى : (يسارعون فيهم حيث قال : ډيسارعون ، ولم يقل: يسرعون ، وقال : فيهم ، ولم يقل : (إليهم)، ولهذا | الأسلوب العظيم فوائد عظيمة : منها : أن ﴿يسارع﴾ التي هي في أصل استعمالاتها تدل على المشاركة ، استعملت ههنا بدلا من ﴿يسرع﴾؛ للدلالة على مبالغة مرضى القلوب من المسلمين في الإقبال على اليهود والنصاری وموالاتهم، وأنهم يتسابقون إلى ذلك، أما قوله : ويسارعون فيهم بدلا من (يسارعون إليهم) فلان الفعل ويسارعون که ضمن معنى فعل آخر، هو ﴿ يدخلون﴾؛ ليكون المعنى : يسارعون بالدخول في الكفار والارتماء في أحضانهم، والمبالغة في موالاتهم، والاتصال بهم على وجه أكثر مما سمح به الشرع. ثم تأملوا كيف علل الله سبحانه وتعالى - موالاتهم لهم بقوله : ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، فمرضى القلوب من المسلمين ليسوا بحاجة إلى اليهود والنصارى في وقت الموالاة ، لكن ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم جعلهم يتهافتون عليهم ؛ لعدم توكلهم على الله عز وجل، ورغبة في مساعدتهم إياهم ، وإن تنكير في دائرة ما يدل على هلع هؤلاء المرضى، فهم يحتسبون الكفار لأي دائرة ، من حرب أو فقر أو مرض أو غيرها، وإن كان القريب من المراد هو الحرب إلا أن ما سواها داخل في المعنى؛ لإطلاق كلمة ودائرة . ولأجل ذلك كان رد المولى عز وجل - عليهم حاسمة حيث قال : وعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمره، وهذا وع من الله تعالى لا | يتخلف؛ لأن ﴿عسی﴾ في حق الله تعالی تدل على الوجوب، بعكس ما هي عليه في حق العباد، فهي تدل عندهم على الرجاء، قال أبوعبيدة: عسى الله : هي إيجاب من الله، وهي في القرآن كلها واجبة ، فجاءت على إحدى لغتي العرب ؛ لأن ﴿عسی﴾ في كلامهم رجاء ويقين وقد أنكر ذلك التفريق الراغب الأصفهاني حيث قال: «وكثير منالمفسرين فروا ﴿لعل﴾ و ﴿عسی﴾ في القرآن باللازم، وقالوا: إن الطمع والرجاء لا يصح من الله ، وفي هذا منهم قصور نظر ؛ وذاك أن الله تعالى إذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإنسان منه راجية ، لا لأن يكون هو تعالی پر جو . انتهى كلامه. والصحيح قول أبي عبيدة ؛ فإن الله تعالى ما وعد بشيء ب﴿عسى﴾ إلا تحقق وعده ، ولا يعترض على ذلك بقوله تعالى : عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التحريم: 5]؛ لأن إبدال الزوجات لرسول الله علق بشرط الطلاق لأمهات المؤمنين، وهذا الشرط قد جاء ب إن) التي تدل على عدم اليقين من تحققه، ومن ثم لم يحصل ما علق عليه ، فتخلف. وعودة على بدء أقول: إن الله تعالى قد أتي في الآية التي بين أيدينا بالفتح معرفة ، وب في أمره منكرة، وقدم الفتح على ذلك الأمر، وهذا الأسلوب الرائع سببه . والله أعلم- أن أول ما يتبادر إلى أذهان المؤمنين من كسر لشوكة أعدائهم يكون بالفتح المعهود لديهم، فبدأ به ، ثم نئی بقوله : وأو أمر من عنده ، وكلمه و أمره عامة تشمل كل ما يخطر على البال ، وما لا يخطر فيه، ثم إن الله تعالى وصف كلمة أمر) بقوله : هو من عنده ، وهذا في غاية الروعة والبيان، فالفتح يكون من الله تعالى، لكنه بأيدي المؤمنين ، أما الآخر فمن عند الله وحده خالصة ، كإرسال الريح على الكفار، والخسف بهم، وإهلاكهم بالطوفان والزلازل والأمراض وغيرها وتأملوا قوله تعالى : فأصبحوا خاسرین تجدوا التعبير بالإصباح على الخسارة غاية في الروعة ؛ فإن من به عله حين تزداد عليه بالليل پر جو الفرج عند الصباح، فإذا انبلج صباحه عن اشتداد لمرضه كانت خيبته أشد وأنکی، فاستعمل مع الإصباح الخسران ، وقرن ذلك بالفاء التي تدل على التعقيب : فأصبحوا خاسرين ؛ لأن الخسران جعل لهم في الوقت الذي كانوا يرجون فيه الفرج . قوله تعالى عن عيسى - عليه السلام - : وتكلم الناس في المهدوكهلا حيث نصب و کهلا ، وهي بعد عاطف مسبوق بمجرور، والسبب أن وكهلا ليست معطوفة على المجرور والمهد ها ، بل هي معطوفة على متعلق الجار والمجرور ( في المهد ، وهو في محل نصب على الحال ، فالتقدير : تكلم الناس کائنا في المهد و کهلا. أما فائدة ذكر التكلم في الكهولة - و هي ما بين الأربع والثلاثين سنة والخمسين . مع أنه ليس بمستغرب تكلم الكهل، وإنما المستغرب تعلم الطفل في المهد ، فالسبب - والله أعلم- أنهم كانوا يقولون: إن من يتكلم في المهد لا يعيش، ولا يمتد به العمر، فكانت المعجزه أعظم حيث خولفت العادة ، فعاش عيسى عليه السلام - وتكلم في حال کهولته ونقل الرازي عن الحسين بن الفضل البجلي: «أن المراد بقوله: و کهلا أن يكون بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناس، ويقتل الدجال، قال الحسين بن الفضل : وفي هذه الآية نص في أنه يمكن أن عيسى - عليه الصلاة والسلام . سينزل إلى الأرض» . ومن المعلوم أن عيسى عليه السلام. قد رفع إلى السماء حين كان عمره ثلاثا وثلاثين سنة وستة أشهر، وعلى هذا التقدير فهو ما بلغ الكهولة ، والله أعلم

ﵟ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﵞ سورة المائدة - 52


Icon