الوقفات التدبرية

قوله تعالى وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ...

قوله تعالى وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: ۲۳ ] . ﴿راود﴾ على وزن ﴿ فاعل﴾، والأصل في هذه الصيغة أن تدل على المشاركة ، والمراودة هي المطالبة برفق مرة تلو مرة ، وهي في هذه الآية إما على معناها الأصلي إذا نظر إلى تكرار المرأة المحاولة معه، وممانعته من ذلك ، كأن المعنى : خادعته عن نفسه، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه، ويأخذه منه، وهو عبارة عن التحمل لمواقعته إياها »، فصارت المراودة كأنها صادرة من الطرفين ، أو أن المشاركة غير واردة ولا مراد هنا ، فتكون ﴿راود﴾ مثل : سافر، وعان، وعافي، وداین، وباعد، وجاوز، وغيرها مما لا يدل على المشاركة، قال أبو السعود - رحمه الله - : وهي مفاعله من واحد، نحو: مطالبة الدائن، ومماطلة المديون، ومداواة الطبيب، ونظائرها، مما يكون من أحد الجانبين الفعل، ومن الآخر سييه، فإن هذه الأفعال، وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين، لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما، وهذا باب لطيف المسلك، مبني على اعتبار دقیق ، تحقيقه أن سبب الشيء يقام مقامه، ويطلق عليه اسمه، كما في قولهم: (كما تدين تدان))، أي : كما تجزي جزى ؛ فإن فعل البادئ، وإن لم يكن جزاء لكته لكونه سببا للجزاء، أطلق عليها اسمه، ... وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام ، نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال، فبنى الصيغة على ذلك، وروعي جانب الحقيقة، بأن أسند الفعل إلى الفاعل، وأوقع على صاحب السبب. وتأملوا - رحمني الله وإياكم - قوله : والتي هو في بيتها و فلم م المرأة، وإنما أتي باسم الموصول، وجعل صلته قوله : و هو في بيتها ، وهذا له فوائد كثيرة : منها إظهار عفة يوسف - عليه السلام - وکمال نزاهته؛ فإن عدم میله إليها، وعدم استجابته لطلبها، مع كونهما في بیت واحد بعيدين عن الشبهة، ومع دوام مشاهدته لمحاسنها، وكونه تحت ملكها، كل أولئك يدل على بلوغه - عليه السلام - أعلى معارج العفة والنزاهة ، قال صاحب كتاب (الفوائد المشوق): «وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن يوسف الصديق من العفاف أعظم ما يكون ؛ فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره؛ فإنه لا كان شابا ، والشباب مركب الشهوة، وكان عزبا، ليس عنده ما يعوضه، وكان غريبة عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحي منهم أن يعلموا به، فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك، والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة، فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة ، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافة من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها، بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع هذا كله عف لله، ولم يطعها، وقدم حق الله و حق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف تكون حاله». كما أن من فوائد هذا التعبير الدلالة على جرأتها وقوة شكيمتها، بأن سعت إلى فتی ربا في بيتها، وعاش في كنفها ، تطلب منه حراما. أما قوله تعالى: وعن نفسها فلم يسبق للعرب استعمال هذه الكناية الرائعة عن طلب المواقعة والجماع ، فهو من أساليب التعبير الجديدة في القرآن العظيم، وتعديه الفعل با عنه للدلالة على أن معنى المراودة هنا: محاوله أن يجاوز الفتي عفافه، وتمكينه إياها من نفسه، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه . وأخيرا تأملوا قوله تعالى : ( وغلقت الأبواب ، فالصرفيون يقولون: التضعيف في هذا الفعل للدلالة على تكثير المفعول، أي للدلالة على كثرة الأبواب، ولكني لا أرى ذلك، بل أرى أن المراد أغلقت الأبواب إغلاقا محكما بشدة وقوة تدعوان إلى الطمانينة ، أما تكثير المفعول به - وهو الأبواب ۔ فليس ناشئا عن الفعل، بل هو غير وارد ؛ لأن جمع الباب على الأبواب يدل على القلة؛ ويؤيده أنه قد روي أن أبواب البيت لم تكن تجاوز العشرة - وهو ما تدل عليه جموع الكثرة ، بل كانت سبعة فقط ، ولو كانت أكثر من ذلك لربما قال :بيبان)، وهذا يدل على أن تضعيف الفعل دال على إحكام الفعل، لا على كثرة المفعول . والله أعلم قوله تعالى : وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

ﵟ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﵞ سورة يوسف - 23


Icon