الوقفات التدبرية

قوله تعالى : (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ...

قوله تعالى : ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: ۳۰ ] . حوت هذه الآية من معالم الجمال اللغوي ما يعجز اليراع عن وصفه، وما بحار العقل ببراعته ؛ فإن قوله تعالى: ونسوة في المدينة ) يدل على مدى انتشار هذا الخبر بين النساء، فوصف النسوة بكونهن متفرقات في المدينة، مع ما تدل عليه كلمة في المدينة و من سعة وكبر، كل أولئك يشعر بكثرة ما تتحدث به النساء عن ذلك الخبر العجيب. ثم إن قوله : و امرأة العزيزة دون تسميتها، أو الكناية عنها كما حصل في الآية السابقة حيث قال : والتي هو في بيتها و يشعر باستهجان هؤلاء النسوة هذا العمل؛ لوقوعه من إمرأة ذات زوج، فصدور المراودة من مثلها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها، مع اشتراكهما في القبح، ثم إن إضافة المرأة إلى العزيز زياده بالتشنيع عليها؛ لأن زوجها عزيز مصر وكبيرها، فكيف تجرؤ على تدنيس كرامته ومكانته؟. ومن معالم الجمال اللغوي في هذه الآية قوله : ﴿تراود فتاها ﴾، فإضافة ﴿فتى﴾ إلى ضمير المرأة مبالغة في التقبيح لها؛ إذ المراو مملوك لها، لا رجل حر، والحرائر تستنكف عن النظر إلى العبيد، فكيف بمراودتهم ؟. ثم إن استعمال الفعل المضارع في تراود ک بدل الماضي كما في الآية السابقة وراودته و يدل على علم هؤلاء النسوة بأن المرأة مستمرة في مراودة الفتى في الماضي والحاضر، ويدل على ذلك أنها أجابتهن فيما بعد بقولها: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (يوسف : ۳۲). أما قوله تعالى : وقد شغفها حبا و فهو في غاية الروعة التعبيرية الجمالية ؛ فإن شغاف القلب حجابه ، فكأن حب هذا الفتى قد مزق حجاب قلبها، ووصل إلى فؤادها، أو أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب، فاشتغل بحبه، وصار حجابا بينه وبين كل ما سوى هذه المحبة ، فلا تعقل صاحبة هذا القلب سواه ، ولا يخطر ببالها غيره . قال ابن القيم - رحمه الله : «إنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط والطلب المفرط ، فلم تقتصد في حبها، ولا في طلبها، أما العشق فقولهن: وقد شغفها حتما به ، أي : وصل حبه إلى شغاف قلبها، وأما الطلب المفرط فقولهن : تراود فتاها و ، والمراودة : الطلب مرة بعد مرة ، فنسبوها إلى شدة العشق وشدة الحرص على الفاحشة». والله أعلم. وبهذه المناسبة أقول: يروى أن رجلا قال لنبي الله يوسف عليه السلام -: إني أحبك يا صفي الله ، فقال : هل أتيت إلا من محبة الناس لي؛ أحبني أبي، فحسدني إخوتي ، حتى ألقوني في الجب، وأحبتني امرأة العزيز ، فلبثت بضع سنين في السجن، فلست أحب أن يحبني إلا ربي . والله أعلم. ومن النوادر اللطيفة أنه حين مات الشاعر كثير بن عبدالرحمن، غلب النساء على جنازته، يبكينه، ويذكرن محبوبته عزة في ندبتهن له، فقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: افرجوا لي عن جنازة كثير؛ لأرفعها، فجعل يضرب النساء بكمه، ويقول : تنحين یا صواحبات يوسف . فانتدبت له امرأة منهن، فقالت : یابن رسول الله لقد صدقت؛ إنا لصواحبات يوسف، وقد كنا له خيرا منكم له، فقال أبو جعفر لبعض مواليه : احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا . فلما انصرف أتي بتلك المرأة كأنها شرارة النار، فقال لها محمد بن علي : أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا؟ قالت: نعم! تؤمنني غضبك یا بن رسول الله؟ قال : أنت آمنة من غضبي، فأبيني. قالت : نحن یابن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب، والتمتع والتنعم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب، وبعتموه بأبخس الأثمان، وحبستموه في السجن، فأينا كان عليه أحنى، وبه أرأف؟ فقال محمد ابن علي: لله درك ! ولن غالب امرأة إلا غلبت ثم قال لها : ألك بعل؟ قالت: لي من الرجال من أنا بعله. فقال أبو جعفر : صدقت؛ مثلك من تملك بعلها، ولا يملكها. فلما انصرفت قال رجل من القوم : هذه زينب بنت معیقب .

ﵟ ۞ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﵞ سورة يوسف - 30

ﵟ قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﵞ سورة يوسف - 32


Icon