الوقفات التدبرية

قال تعالى في سورة البقرة: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي...

قال تعالى في سورة البقرة: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ﴾ (143). وقال في سورة الأنعام: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ٨٩ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ﴾ (89، 90). وقال في سورة الزمر: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ١٧ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ (17، 18). سؤال: لماذا قال في آية البقرة: ﴿إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ﴾، فحذف العائد على ﴿الذين﴾ من الفعل ﴿هدى﴾. وكذلك في آية الأنعام فقد قال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ﴾، ولم يقل: ﴿هداهم الله﴾. في حين قال في آية الزمر: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ﴾ فذكر العائد وهو الضمير ﴿هم﴾ المتصل بالفعل ﴿هدى﴾؟ الجواب إن هذا النوع من الحذف إنما هو من الحذف الكثير في اللغة، والفرق بين الذكر والحذف أن الذكر يفيد التوكيد كما هو معلوم، ومعنى ذلك أن قوله: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ﴾ آكد من قوله: ﴿ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ﴾ لأنه صرح بذكر الضمير. أما الفرق بين آية البقرة وآية الزمر فإن آية الزمر تقتضي التوكيد أكثر من آية البقرة وذلك أن آية البقرة إنما هي في تحويل القبلة. وأما آية الزمر فإنها فيمن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهؤلاء على درجة كبيرة من الهدى فإنهم لا يكتفون باتباع الحسن وإنما يتبعون الأحسن، ثم إنه جاء معهم بالفاء فقال: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُ﴾ ولم يأت بـ ﴿ثم﴾، والفاء تدل على الترتيب والتعقيب فإنهم بمجرد سماع القول يتبعون الأحسن. وقال: ﴿يتّبعون﴾ مضارع ﴿اتّبع﴾ بتضعيف التاء وهو على وزن (افتعل) الدالّ على المبالغة في الاتباع ولم يقل﴿يتْبعون﴾ بالتخفيف، وهذه مرتبة عظيمة أعلى من مجرد اتباع القبلة لأن اتباع القبلة إنما هو من استماع القول واتباعه فهو واحد من الأمور المطلوبة. فهداية المذكورين في الزمر أعلى وآكد لأنها تشمل ما ذكره في آية البقرة وغيره مما يريده الله. ولذا كان التوكيد في الزمر هو المناسب. وأما آية الأنعام فهي في جمع من رسل الله وأنبيائه وفيهم أولو العزم، ولا شك أن هؤلاء أعلى من المذكورين في آية الزمر. قد تقول: ولماذا إذن لم يذكر الضمير مع فعل الهداية مع أنهم أولى بالتوكيد من غيرهم؟ والجواب: إن ربنا ذكر كل أحوال الهداية مع هؤلاء الذين ذكرهم في سياق آية الأنعام، واستعمل كل أنواع التعدية لفعل الهداية. فقد عدى الفعل إلى المفعول مباشرة بأسمائهم الظاهرة، فقال: ﴿وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ (84)﴾ إلخ. فعطف هؤلاء الأنبياء والرسل على نوح الذي هو مفعول ﴿هدينا﴾ أي: ومن ذريته هدينا سليمان وأيوب ويوسف ..... إلخ. ثم عدى الفعل إلى ضميرهم أيضًا فقال: ﴿وَٱجۡتَبَيۡنَٰهُمۡ وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ (87)، فقال:﴿هَدَيۡنَٰهُمۡ﴾ فعدّى الفعل إلى ضميرهم كما قال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ﴾ وزاد على ذلك الاجتباء. ولم يكتف بذاك بل قال أيضًا: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ﴾ فحذف مفعول ﴿هدى﴾ وهو الضمير العائد على الرسل فجعل الكلام على صورة المطلق فأطلق المعنى، إذ يحتمل هذا التعبير معنيين: الأول: أولئك الذين هداهم الله وهو الأظهر. والثاني: أولئك الذين هدى الله بهم. فصار المعنى: أولئك الذين هداهم الله وهدى بهم، ولو ذكر الضمير لدل على معنى واحد، فاتسع المعنى بالحذف. ولا شك أن هذا المعنى أوسع من ذكر الضمير وأمدح لهم. فزاد على ما ذكره في الزمر بالتعدية إلى المفعول المباشر وهو الاسم الظاهر، وبالحذف للدلالة على الإطلاق واتساع المعنى. ثم إنه ذكر من الهداية ما لم يذكره في الآيتين. فقد ذكر الهداية العامة، وهو قوله: ﴿وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ (84)﴾ إلخ. ولم يخصص الهداية بأمر معين. ثم ذكر أنه هداهم إلى صراط مستقيم فقال: ﴿وَٱجۡتَبَيۡنَٰهُمۡ وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ وهذه هداية أخرى. ثم أفاد بالحذف أنه هداهم وهدى بهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن أسند فعل الهداية مع رسل الله مرة إلى ضمير التعظيم، فقال: ﴿وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ (84)﴾ إلخ، وقال: ﴿وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾. وأسنده مرة أخرى إلى اسمه الجليل وهو اسمه العَلَم فقال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ﴾. في حين أسنده في الآيتين الأخريين إلى اسمه العلم، فزاد في الإسناد مع الرسل على ما في الآيتين الأخريين. هذا علاوة على ما ذكره من التعظيم لأنبيائه ما لم يذكره مع الآخرين من نحو قوله: ﴿وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾. وقوله: فزاد الاجتباء على الهداية. وقوله: ﴿وَٱجۡتَبَيۡنَٰهُمۡ وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾. وقوله: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ﴾. وقوله: ﴿فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ﴾. فناسب كل تعبير موضعه. وقد تقول: ألا يحتمل الحذف في آية البقرة وهي قوله: ﴿وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ﴾ ما ذكرته في قوله: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ﴾ فيكون المعنى: إلا على الذين هداهم الله وهدى بهم، فيتسع المعنى، فيكون مَن ذكرهم في البقرة أعلى ممن ذكرهم في الزمر نظير ما ذكرته في آية الأنعام؟ والجواب: إن السياق يأبى ذلك، فإن هذه الآية في تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس، ويكفي في ذلك أن يتجه المسلم إلى الكعبة في صلاته، وأن يهديه الله للرضا بذلك سواء كان يهدي الآخرين أم لا، وسواء كان عالمًا أم لا. فمن رضي بذلك واتجه إلى القبلة، شملته الآية أيًّا كان فلا يصح تقدير ما ذكرت. وقد تقول: ولِمَ لَم يحذف الضمير في آية الزمر فيقول: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ﴾ ليشمل الذين هداهم الله وهدى بهم، فيكون أمدح لهؤلاء كما فعل في آية الأنعام؟ والجواب: إن ذكر الضمير ههنا من رحمة الله بنا، ولو حذفه لكان البشرى لا تنال إلا من هداه الله وهدى به، فيكون ممن جمع بين الأمرين، ولا تنال مَن هداه الله ولم يَهد به، فذكر الضمير أفاد نصًّا أن البشرى تنال مَن هداه الله، وأن ذلك كافٍ لأن تناله بشرى ربنا. وهذا من رحمته سبحانه بعباده، والحمد لله رب العالمين. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 21: 25)

ﵟ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﵞ سورة البقرة - 143

ﵟ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﵞ سورة الأنعام - 89

ﵟ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ﵞ سورة الأنعام - 90

ﵟ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ ﵞ سورة الزمر - 17

ﵟ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﵞ سورة الزمر - 18


Icon