الوقفات التدبرية

يقول الله سبحانه: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ...

يقول الله سبحانه: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ﴾ (الرعد: 15). ويقول: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ﴾ [الحج: 18] بإسناد الفعل ﴿يسجد﴾ إلى: ﴿من﴾ التي هي للعاقل في الآيتين. وقال في آية أخرى: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ٤٨ وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن دَآبَّةٖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ﴾ [النحل: 48-49]، بإسناد الفعل ﴿يسجد﴾ إلى ﴿ما﴾ فما السبب؟ الجواب: قال تعالى في آية الرعد: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا﴾، والطوع والكره من صفات العقلاء؛ إذ العاقل هو الذي يختار الفعل طوعًا أو يُستكره عليه، فناسب إسناد السجود إلى ﴿من﴾ التي هي للعاقل. وأما آية الحج فإنها في سياق العقلاء، فقد قال قبلها: ﴿يُرِيدُ١٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ١٧ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ . . .﴾. فناسب إسناد السجود إلى ﴿من﴾ أيضًا. وأما آية النحل فإنها ذُكرت في سياق العموم، فقد جاء قبل الآية قوله سبحانه: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ٤٨ وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ . . .﴾ ، فقد قال: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ﴾ وكلمة ﴿شيء﴾ تدل على العموم من عاقل وغيره، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أنه قال في الآية: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن دَآبَّةٖ﴾ فبين الساجدين بقوله: ﴿من دابة﴾، وكلمة ﴿دابة﴾ عامة، واستعمالها في غير العاقل هو الغالب، فناسب إسناد الفعل إلى ﴿ما﴾ من جهتين: الأولى: العموم في ﴿شيء﴾ والأخرى: العموم وغلبة غير العاقل في ﴿دابة﴾. و﴿ما﴾ كما هو معلوم أعم من ﴿من﴾، وما تدل عليه أكثر مما تدل عليه ﴿من﴾. فإن ﴿من﴾ خاصة بذوات العقلاء، وأما ﴿ما﴾ فهي تدل على ذوات ما لا يعقل وعلى صفات العقلاء. فالأول نحو قولك: (آكل ما تأكل وأركب ما تركب)، قال تعالى: ﴿يَأۡكُلُ مِمَّا تَأۡكُلُونَ مِنۡهُ وَيَشۡرَبُ مِمَّا تَشۡرَبُون﴾ (المؤمنون: 33). والثاني: نحو قولك (ما زيد؟) فتقول: تاجر أو كاتب، ونحو قوله تعالى: ﴿وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا﴾ [الشمس: 7]، والذي سوّاها هو الله، وقوله: ﴿فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ (النساء: 3)، فاتضح أن ما تدل عليه ﴿ما﴾ أعّم وأكثر مما تدل عليه ﴿من﴾ فذوات غير العاقل أكثر من ذوات العقلاء، فكيف إذا أُضيف إليهم صفات العقلاء؟ فناسب العموم كلمة ﴿ما﴾ في آية النحل إضافة إلى ما بيّن به ﴿ما﴾ من غير العاقل أو ما غلب فيه ذلك، وهو قوله: ﴿من دابة﴾ فناسب ذلك ﴿ما﴾ أيضًا. ومن اللطيف أن نذكر ههنا أن الله سبحانه إذا أسند السجود، إلى﴿من﴾ أتبعه بذكر غير العاقل، وإذا أسنده إلى ﴿ما﴾ أتبعه بذكر العاقل. فقد قال في آية الرعد: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ﴾ ثم عطف عليه بقوله:﴿وَظِلَٰلُهُم﴾ والظلال غير عاقلة. وقال في آية الحج: ﴿شَهِيدٌ١٧ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ﴾، وعطف عليه الشمس والقمر والنجوم ونحوها. وقال في آية النحل: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ﴾ وعطف عليه الملائكة، حتى إنه فعل ذلك مع فعل التسبيح في قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلطَّيۡرُ صَٰٓفَّٰتٖۖ﴾ فعطف ﴿الطير﴾ على: ﴿مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ﴾. وقد تقول: ولم قال في آية الحج: ﴿وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ﴾ بعد قوله: ﴿وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ وهم داخلون فيمن قبلهم؟ والجواب من أكثر من وجه: فقد يكون ذاك من باب عطف الخاص على العام فإن قوله: ﴿مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ لا يخص الناس وحدهم بل قد يكونون من الناس أو من غيرهم من الجن أو عباد الله الآخرين الذين لا نعلمهم. وعطف الخاص على العام غير عزيز في اللغة، قال تعالى: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ﴾ [البقرة: 238] والصلاة الوسطى من الصلوات، وقال: ﴿فِيهِمَا فَٰكِهَةٞ وَنَخۡلٞ وَرُمَّانٞ﴾ [الرحمن: 68] والنخل والرمان فاكهة. أو إن السجود الأول بمعنى السجود العام، وهو التسخير والانقياد لله والخضوع له، وهذا لا يخص الإنسان بل يعم الجميع من عاقل أو غيره، وهو ليس عبادة بالنسبة إلى المكلفين، وإن السجود الثاني سجود طاعة واختيار كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا﴾. وقد يقوّى هذا الاحتمال أنه ذكر قبل الآية أصنافًا من الناس، من يسجد لله سجود طاعة وكثيرًا حق عليه العذاب، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ﴾، فالمجوس والذين أشركوا وقسم من الصابئين لا يسجدون لله سجود طاعة واختيار، فقد يكون من بين هؤلاء من يعبد النار أو يعبد النجوم أو غير ذلك من المعبودات. فناسب أن يقول: ﴿وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ﴾. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 100: 103)

ﵟ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۩ ﵞ سورة الرعد - 15

ﵟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩ ﵞ سورة الحج - 18


Icon