الوقفات التدبرية

قال تعالى في سورة النحل: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ...

قال تعالى في سورة النحل: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ٧٠﴾. وقال في سورة الحج: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡ‍ٔٗاۚ﴾ (5) سؤال: لقد فصلت ﴿لا﴾ عن ﴿كي﴾ في الرسم في آية النحل فكتبت ﴿لكيلا﴾، ووصلت في آية الحج فكتبت ﴿لكيلا﴾ فما السبب؟ الجواب: إن هذا من شؤون رسم المصحف الذي لا يقاس عليه مع أنه يجوز ﴿لا﴾ بـ ﴿كي﴾ ويجوز فصلها عنها في الرسم، ومع ذلك فإنه كما يبدو أن وصل ﴿لا﴾ بكي وفصلها عنها في رسم المصحف له ارتباط بالناحية البيانية، والله أعلم. ذلك أن ﴿من﴾ في قوله: ﴿مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ﴾ ونحوها تفيد ابتداء الغاية، فقوله: ﴿لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ﴾ يفيد أن عدم العلم موصول بالعلم بلا فاصل أي إن ذلك يكون بعد العلم مباشرة. وأما قوله: ﴿بَعۡدِ عِلۡمٖ﴾ فإن ذلك يحتمل أن يكون عدم العلم متصلاً بالعلم كالأول، ويحتمل أن يكون بعده بمدة. ونظيره قولك: ﴿فوقه﴾، ﴿ومن فوقه﴾، فإن قولك: ﴿فوقه﴾ يحتمل القرب. وأما ﴿من فوقه﴾ فيفيد الاتصال بما هو تحته، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا [فصلت: 10] فقال ﴿من فوقها﴾ أي بلا فاصل. وقال: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ [ق: 6]، فلم يأت ب ﴿من﴾ لأن الفوقية بعيدة. ونحوه قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ﴾ [الملك: 19]، فإنه لم يأت ب﴿من﴾ لأنها كذلك أي إن الفوقية غير متصلة. فلما كان عدم العلم متصلاَ بالعمل في آية الحج أي حصل بعده مباشرة بلا فاصل وصلت ﴿لا﴾ بـ ﴿كي﴾ فرُسمت موصولة بـ ﴿لكيلا﴾. ولما لم يكن كذلك في آية النحل فصلت ﴿لا﴾ عن ﴿كي﴾ فرُسمتا مفصولتين ﴿كي لا﴾ وهذا الأمر لا يقتصر على هاتين الآيتين بل حيث وردت ﴿كي﴾ مع ﴿لا﴾ في المصحف رُسمتا بحسب هذا الأمر. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ [الأحزاب: 37]. ففصلت ﴿لا﴾ عن ﴿كي﴾ في الرسم، وذلك أن الزواج بأزواج الأدعياء إنما يكون بعد الانفصال عن أزواجهن وبعد انقضاء العّده ففصلت في الخط ﴿لا﴾ عن ﴿كي﴾ مجانسة لذلك. في حين رُسمت ﴿لا﴾ موصوله ب ﴿كي﴾ في قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾ [الأحزاب: 50] ؛ وذلك لأن الاتصال قائم بأزواجه وبما ملكت يمينه . ونحوه قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ [آل عمران: 153]. إذ وصلت ﴿كي﴾ ب ﴿لا﴾ وذلك أن قوله: ﴿فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ﴾ معناه أنه جازاكم غمًّا موصولاً بغم، غم الهزيمة وفوات الغنيمة، أو جازاكم غمًّا موصولاً بغم فعلتموه لرسول الله لمّا عصيتم أمره. فلما كان الغم الثاني موصولاً بالغم الأول وصلت ﴿كي﴾ ب ﴿لا﴾ مجانسة لوصل الغمين. في حين رُسمت ﴿كي﴾ مفصولة عن ﴿لا﴾ في قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7]. وذلك أنه لا يريد أن تبقى الأموال دُولة بين الأغنياء لا تخرج عنهم، وإنما أراد أن يشاركهم فيها الآخرون ففصلت ﴿لا﴾ عن ﴿كي﴾ مجانسة لإرادة ألا تبقى الأموال محصورة في فئة معينة. وهذا لطيف الرسم. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 109: 112)

ﵟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﵞ سورة النحل - 70

ﵟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﵞ سورة الحج - 5


Icon