الوقفات التدبرية

قال تعالى في سورة النحل: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ...

قال تعالى في سورة النحل: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ٧٩﴾ [النحل: 79]. وقال في سورة الملك: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ١٩﴾ [الملك: 19]. سؤال: لماذا قال في آية النحل ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ﴾ بإسناد الإمساك إلى الله، وقال في آية الملك ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾ بإمساك الإسناد إلى الرحمن؟ الجواب: من أوجه: 1 – إن كلمة ﴿الرحمن﴾ لم ترد في سورة النحل على وطولها وهي (128) آية، ووردت في سورة الملك أربع مرات، وهي ثلاثون آية. 2 – ووردت كلمة ﴿الله﴾ في سورة النحل (84) أربعًا وثمانين مرة، ووردت في سورة الملك ثلاث مرات. 3 – لم يرد إسناد الفعل ﴿سخر﴾ إلى الرحمن في القرآن الكريم، وقد أُسند إلى الله في مواضع عدة، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [لقمان: 20]، ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ١٢﴾ [الجاثية: 12]. فمن حيث السمة التعبيرية للسورة والاستعمال القرآني للفعل ﴿سخر﴾ ناسب كل تعبير موضعه. 4 – وإن السياق في سورة الملك في ذكر مظاهر الرحمة، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ١٥﴾. وقوله: ﴿قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ٢٣﴾. حتى إنه إذا حذرهم فإنه يحذرهم بزوال النعم من نحو قوله تعالى: ﴿أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي يَرۡزُقُكُمۡ إِنۡ أَمۡسَكَ رِزۡقَهُۥۚ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوّٖ وَنُفُورٍ٢١﴾، وقوله: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۢ٣٠﴾. ومن مظاهر لذلك أنه حين ذكرهم بالمكذبين ممن قبلهم، قال ﴿وَلَقَدۡ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ١٨﴾ ولم يقل: ﴿فكيف كان عقاب﴾. فذكر الإنكار عليهم ولم يذكر العقوبة، كما قال في الرعد مثلا (الآية 32) والإنكار أخف من العقوبة. أما السياق في سورة النحل ففي التوحيد والنعي على الشرك ، وذلك نحو قوله : ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ٧٣ فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ٧٤ ۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ٧٥ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ٧٦ وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٧٧﴾ . حتى إنه ختم الآية: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾. قد تقول: ولكن قال أيضا في سياق آية النحل قبل هذه الآية: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ٧٨﴾. فأقول: نعم ولكنها وردت في سياق التوحيد والنعي على الشرك ثم إنه قال في آية النحل: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ﴾ فأسند ذلك إالى الله. وقال في الملك: ﴿قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ﴾ فأسند ذلك إالى الضمير ﴿هو﴾ الذي يعود على الحمن قبله في قوله تعالى: ﴿أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٞ لَّكُمۡ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِۚ إِنِ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ٢٠﴾. فأعاد الضمير على الحمن فناسب ذكر ﴿الرحمن﴾ في آية الملك، وذكر﴿الله﴾ في آية النحل. 5- ذكر في آية النحل أن الطير مسخرات وهو من باب القهر والتذليل، وليس من باب الاختيار فأسند ذلك إلى الله، أما في آية الملك فقد قال: إنهن ﴿صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ﴾ (الملك: 19) بإسناد ذلك إلى الطير فهو من باب التمكين للطير، وهو أنسب بالرحمة. 6- ذكر في سورة الملك شيئاً من الراحة للطير وهو قوله ﴿صَٰٓفَّٰتٖ﴾ وهو سكون الحركة فناسب ذلك الرحمة، وجاء في ((ملاك التأويل)): ((إن سورة الملك لما انطوت على ذكر حالين للطائر من صفه جناحية وقبضهما وهما حالتان يستريح إليهما الطائر. فتارة يصف جناحية كأن لا حركة به، وتارة يقبضهما إلى جنبيه حتى يلزقهما بهما ثم يبسطهما ويقبضهما موالاة بسرعة كما يفعل السابح، فناسب هذا الإنعام منه تعالى ورود اسمه الرحمن. أما آية النحل فلم يرد فيها ذكر هذه الاستراحة فقيل هنا: ﴿مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ﴾ وتناسب ذلك وامتنع عكس الوارد بما تبين، والله أعلم)). (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 112: 115)

ﵟ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﵞ سورة النحل - 79

ﵟ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﵞ سورة الملك - 19


Icon