الوقفات التدبرية

– قال تعالى في سورة العنكبوت في سيدنا نوح عليه السلام:...

– قال تعالى في سورة العنكبوت في سيدنا نوح عليه السلام: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ١٥﴾ [العنكبوت: 15]. وفي آيات أخرى سماها الفلك فقال: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ [الشعراء: 119]. وقال: ﴿فَأَنجَيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ١١٩﴾ [الشعراء: 119]، فما السبب؟ الجواب: السفينة هي الفلك غير أن العرب استعملت السفينة خاصة بالمفردة المؤنثة. أما الفلك فقد استعملتها عامة، فقد استعملتها للواحد والاثنين والجمع، واستعملتها مذكرة مؤنثة، فتقول للواحد: ﴿فُلك﴾ تؤنثه وتذكّره، وتقول للجمع أيضاً ﴿فُلك﴾، وكذا استعمله القرآن. قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [المؤمنون: 27]، فجعلها مفردة مؤنثة، فقد قال: ﴿فَاسْلُكْ فِيهَا﴾. وقال: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ٤١﴾ [هود: 41] وقال: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ [هود: 42]، وهي في ذلك كله مؤنثة. وقال: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ١١٩﴾ [الشعراء: 119]. وقال: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ١٣٩ إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ١٤٠﴾ (الصافات 139 -140). فقال: ﴿ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُون﴾ فجعلها مفردة مُذكرة. وقال: ﴿وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ﴾، فقال:﴿مَوَاخِرَ﴾ فجعلها جمعًا. وقال: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم﴾(يونس: 22)، فقال:﴿وَجَرَيۡنَ﴾ فجمع وأنّث. وقد تقول: ولم استعملها القرآن مذكرة أحيانًا ومؤنثة أحيانًا أخرى؟ فنقول: إنه استعملها مذكرة في حالة ملئها بالحمل، ولم يستعملها في غير ذلك؛ ذلك لأن التذكير أقوى من التأنيث، وأن المذكر أقوى من المؤنث، قال تعالى:﴿فَأَنجَيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ﴾ (الشعراء: 119). وقال:﴿وَءَايَةٞ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ﴾ (يس: 41)، و:﴿ٱلۡمَشۡحُونِ﴾ معناه: المملوء، ((والشحن ملؤك السفينة وإتمامك جهازها كله، شحن السفينة يشحنها شحنًا ملأها))، فشحن السفينة ملؤها كلها. ولذا عندما ذكر سيدنا يونس فقال:﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ١٣٩ إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ١٤٠ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ١٤١ فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٞ﴾ (الصافات: 139-142). أفاد إنه أُلقي في البحر لأن السفينة كانت ملأى ولابد أن يخفف من حملها، فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت، فلما ذكر أثقل حالاتها حملًا ذكرها مذكًرة. قد تقول: ولكنه ذكر حالات أخرى تدل على الملء ولم يستعملها مذكرة، وذلك قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ٤٠﴾ [هود: 40] وقوله : ﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ٢٧﴾ [المؤمنون: 27] . فنقول: إن الآيتين لا تدلان على الملء فهو لم يقل إنها مملوءة، فقد أمره في آية هود أن يحمل من كل زوجين اثنين وأهله ومن آمن، وقد ذكر أنهم قلة، فقال: ﴿وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ﴾. ومما يدل على أن في السفينة متسعاً، أنه نادى ابنه فقال: ﴿يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا﴾ (هود: 42). وأما آية ﴿المؤمنون﴾ فقد ذكر أنه أمره أن يسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهله، ولم يذكر مَن آمن، فلم يصرّح بالملء بخلاف التصريح بالشحن، وثيل: إن تأنيثها وتذكيرها كأنه (يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكّر، وإلى السفينة فيؤنث). ثم نأتي إلى السفينة والفلك في السؤال فنقول: إن السفينة من السّفْن وهو القَشْر، ومعنى (سفن الشيء) قشره، وسميت السفينة لأنها تسفن وجه الماء أي تقشره. وأما الفلك فكأنها سُميت بذلك لأنها تركب الفَلَك، ومن معاني ﴿الفَلَك﴾ بفتح الفاء واللام موج البحر إذا ماج واضطرب، ومن معانيه الماء الذي حركته الريح، وفَلَك البحر موجه المستدير المتردد. فكأنها سٌميت بذلك لما كانت تركب الموج وما ذكرناه في معنى الفلك. وقد بيّنا أن ﴿الفُلك﴾ أعم من السفينة في الاستعمال اللغوي لأنه يذكّر ويؤنث، ويكون للواحد وغيره بخلاف السفينة، فإنها مفردة مؤنثة فهي مختصة. وقد استعمل القرآن السفينة في مقام التخصيص فقط مناسبة لمعناها اللغوي بخلاف الفلك فقد استعملها عامة وخاصة. 1 – فقد استعمل القرآن السفينة في المملوكة دون غيرها، فقد قال: ﴿حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا﴾ [الكهف: 71]، وهذه السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر كما جاء في سورة الكهف آية 79. ثم قال: ﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا٧٩﴾ (الكهف: 79)، أي يأخذها غصباً من ملكها. فالسفينة في القرآن لم تستعمل إلا في سفينة نوح، وهي المذكورة في آية العنكبوت، وفي هذه السفن المذكورة في سورة الكهف وهي مملوكة لمساكين أو آخرين في ذلك العهد. وهي على أية حال خاصة بمالك أو خاصة بعهد معين هو عهد الملك المغتصب أو هي فلك نوح. وأما الفلك فهي قد تكون خاصة كما في فلك نوح، وقد تكون مطلقة تصلح لجميع الأزمنة، وذلك نحو قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ [لقمان: 31]. وقوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ [الجاثية: 12]. وقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 46]. 2 – ومن استعمالها مختصة أنه ذكر معها الأصحاب في قصة نوح، فقال: ﴿فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَصۡحَٰبَ ٱلسَّفِينَةِ﴾ وكلمة الأصحاب قد تأتي بمعنى المالكين، وإن لم تكن كذلك في قصة نوح، وإنما هي على تقدير ﴿في﴾ أي وأصحابه في السفينة، مثل ﴿يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ﴾ أو تكون الإضافة لأدنى ملابسة، فناسب ذكر الأصحاب استعمالها مملوكة في السياقات الأخرى، فكانت في كل استعمالاتها مملوكة أو كالمملوكة. 3 – ومن لطيف الاستعمال أنه مع ذكر السفينة التي هي خاصة ذكر المدة التي لبثها سيدنا نوح وخصصها فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ١٤﴾ [العنكبوت: 14]، فذكره وخصصه مع ذكر السفينة التي هي أخص من الفلك. 4 – ثم إنه قال في السفينة المذكورة في آية العنكبوت، وهي سفينة نوح : ﴿وَجَعَلۡنَٰهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِين﴾ أي : جعل السفينة هذه آية ، ولو ذكر مكانها الفلك لم يدل نصاً على أن المقصود به الفلك الذي صنعه نوح ، بل يحتمل أن المقصود به عموم الفلك الذي يركبه الناس ، وقد ذكره ربنا ، وذكر أنه آية من آياته في أكثر من موضع فقال : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ١٦٤﴾ [البقرة: 164] . وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 46] فذكر أنه من آياته. وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ [لقمان: 31]. وقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ١٢ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ١٣﴾ [الجاثية: 12-13]. فلو ذكر الفلك أيضاً في آية العنكبوت لاحتمل أن المقصود نحو ما ذكره في آيات أخرى في الفلك، ولم ينص على أنه سفينة نوح. فاستعمل السفينة التي هي – خاصة في اللغة – خاصة بسفينة نوح أو خاصة بمالكين أو خاصة بعهد معين، وخصص معها مدة لبث نوح وخصصها بأنها آية للعالمين. فما أجلّ هذا التناسب وألطفه! (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 135: 140)

ﵟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﵞ سورة العنكبوت - 15

ﵟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﵞ سورة الشعراء - 119


Icon