الوقفات التدبرية

قال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي...

قال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ٢٢﴾ [العنكبوت: 22]. وقال في سورة الشورى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ٣١﴾ [الشورى: 31]. سؤال: لماذا قال في سورة العنكبوت: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ فذكر السماء إضافة إلى الأرض. وقال في الشورى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ فذكر الأرض ولم يذكر السماء؟ الجواب: إن التهديد والتوعد في العنكبوت أشد وأعم ّ، وذلك أن السياق في العنكبوت يختلف عمّا في الشورى من أكثر من جهة منها: 1 – أن الكلام في العنكبوت إنما هو على الكفار وتهديدهم وتوعدهم وذلك من مثل قوله: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ [العنكبوت: 17]. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ٢٣﴾ [العنكبوت: 23]. وأما الكلام في الشورى فأكثره في المؤمنين أو هو عام، وذلك من مثل قوله: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الشورى: 23] وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى: 25]. وقوله: ﴿۞وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٖ مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِيرٞ٢٧﴾. وقوله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ مِنۢ بَعۡدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحۡمَتَهُ﴾ (28). فناسب أن يكون التهديد في العنكبوت أشد. 2 – إن جو سورة العنكبوت إنما هو في ذكر الأمم الكافرة وموقفهم من رسلهم وعقوباتهم، فقد ذكر قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم لوط وذكر مدين وعاداً وثمود وقارون وفرعون وهامان، فناسب ذلك شدة التهديد والتحذير فيها، ولم يذكر شيئاً من ذلك في الشورى. 3 – قال تعالى قبل آية العنكبوت هذه: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ٢٠﴾ [العنكبوت: 20]. وقال في الشورى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ٢٩﴾ [الشورى: 29]. فقال في آية العنكبوت: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقال في الشورى: ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾. فذكر قدرته في العنكبوت بما هو أعمّ وأشمل فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وذكر شيئًا من مظاهر قدرته في الشورى: ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ فذكر جمع مَن في السماوات والأرض. وهذا ولا شك جزء من قدرته فهو يدخل في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. فذكر في العنكبوت ما هو أعمّ مما في الشورى، وهو السماء والأرض، وذكر جزءاً من ذلك في الشورى، وهو الأرض، فناسب العموم العموم، والتخصيص التخصيص. 4 – ذكر في الشورى من مظاهر مغفرته وعفوه ولطفه ما لم يذكره في العنكبوت، فقد قال في الشورى: ﴿وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ (5)، وهذا من رحمة الله بمن في الأرض، فقد جعل الملائكة يستغفرون لهم. وقال: ﴿أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ٥﴾. وقال: ﴿ٱللَّهُ لَطِيفُۢ بِعِبَادِهِۦ﴾ (19)، وقال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ شَكُورٌ٢٣﴾، وقال : ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ٢٥﴾ ، وقال : ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ مِنۢ بَعۡدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحۡمَتَهُۥۚ وَهُوَ ٱلۡوَلِيُّ ٱلۡحَمِيدُ٢٨﴾ ، وقال :﴿وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ٣٠﴾ ، وقال أيضاً : ﴿وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ٣٤﴾ ، ولم يرد في العنكبوت ذكر للمغفرة أو العفو ، وإنما ذكر التهديد والتوعد من مثل قوله : ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ٢﴾ ، وقوله : ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَاۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ٤﴾ ، وقوله : ﴿وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَوۡلَآ أَجَلٞ مُّسَمّٗى لَّجَآءَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ وَلَيَأۡتِيَنَّهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ٥٣﴾ ، وقوله : ﴿يُشۡرِكُونَ٦٥ لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ وَلِيَتَمَتَّعُواْۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ٦٦﴾ . فناسب التوعد الشديد والتهديد ما في العنكبوت. جاء في (ملاك التأويل): ((للسائل أن يسأل عن زيادة الوارد في سورة العنكبوت، من قوله: ﴿وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ ولم يرد ذلك في سورة الشورى. والجواب عنه – والله أعلم – أنه لما تقدم قبلها قوله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَا﴾ وهذا من أشد الوعيد، إذ حاصله أنه لا يفوته سبحانه أحد، وأنه لا مهرب منه إلا إليه، ناسب هذا قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ كما قال: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 148]، إلى ما ورد من هذا وذلك تناسب بيّن. ولما لم يرد في سورة الشورى من أولها إلى الآية مثل هذا الوعيد الشديد، ولا كان فيها ما يستدعي هذا التعميم والاستيفاء الوعيدي وردت الآية مناسبة لذلك فقال تعالى: ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ ولم يكن التعميم هنا المناسب، فورد كل على ما يجب والله سبحانه أعلم)). 5 – إن كلمة ﴿الأرض﴾ وردت في الشورى أكثر مما في العنكبوت فقد وردت في العنكبوت خمس مرات، ووردت في الشورى عشر مرات، فناسب الاقتصار على ذكر الأرض في الشورى من هذه الجهة. 6 – إن كلمة السماء وردت في العنكبوت ثلاث مرات، ولم ترد في الشورى، فناسب ذكر السماء إضافة إلى الأرض في العنكبوت من جهة أخرى، فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه من كل جهة، والله أعلم. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 141: 144)

ﵟ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۖ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﵞ سورة العنكبوت - 22

ﵟ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۖ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﵞ سورة الشورى - 31


Icon