الوقفات التدبرية

قال تعالى في سورة (ص): ﴿إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ...

قال تعالى في سورة (ص): ﴿إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ١٤﴾. وقال في سورة (ق): ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ١٤﴾ [ق: 14]. سؤال: لماذا قال في آية (ص): ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ وقال في آية (ق): ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾؟ الجواب: إن العقاب أشد من الوعيد، والصفات المذكورة للكافرين في (ص) أشد مما في (ق)، وهم في (ص) أشد وأعتى على المسلمين مما في (ق)، وذكر من عقوبات الأمم السابقة في (ص) ما لم يذكره في (ق)، وذكر من تهديد الكافرين وتوعدهم في (ص) ما لم يذكره في (ق) فناسب ذلك أن يذكر في (ص) أشد مما ذكره في (ق). قال تعالى في (ص) : ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ١ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ٢ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ٣ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ٤ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ٥ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ٦ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ٧ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ٨ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ٩ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ١٠ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ١١ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ١٢ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ١٣ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ١٤ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ١٥ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ١٦ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ١٧﴾ [ص: 1-17] . وقال في ق : ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ١ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ٢ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ٣ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ٤ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ٥ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ٦ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ٧ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ٨ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ٩ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ١٠ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ١١ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ١٢ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ١٣ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ١٤﴾ [ق: 1-14] . ومن النظر في النصين يتضح أن ما يأتي: 1 – أنه وصف الكافرين في (ص) أنهم في عزة وشقاق، فقال: ﴿بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ٢﴾، ولم يقل مثل ذلك في (ق). 2 – وذكر أنه أهلك من القرون المُكذبة السابقة الكثير فاستغاثوا وصرخوا فلم ينفعهم ذلك، فقال: ﴿كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ٣﴾، ولم يذكر مثل ذلك في (ق). 3 – قال الكافرون في الرسول في (ص) ما لم يقولوه في (ق)، فقد قالوا في (ص): ﴿هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ﴾، ولم يقولوا مثله في (ق). قد تقول: ولكن ورد أيضاً في (ق) ذكر التكذيب، فقال: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ فَهُمۡ فِيٓ أَمۡرٖ مَّرِيجٍ٥﴾. فنقول: إنه ورد في (ص) من التكذيب ما هو أشد إضافة إلى ما ورد من وصف الرسول بالسحر والكذب، فقالوا: ﴿مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ٧ أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ٨﴾. كما سنذكر. 4 – كان إنكارهم في (ص) أشد مما في (ق)، فقالوا: ﴿أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًا﴾ ولم يقولوا مثله في (ق). 5 – وكان عجبهم في (ص) أشد مما في (ق)، فقد قالوا في (ق): ﴿هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ﴾، وقالوا في (ص): ﴿إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ﴾، بالتوكيد بإن، واللام، والعدول عن صيغة عجيب إلى عجاب، وهي أشد عجباً من عجيب. 6 – وذكر في (ص) أن الكافرين طلبوا السعي لنصرة آلهتهم فقال: ﴿وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ﴾، ولم يذكر ذلك في (ق). 7 – وكرروا إنكارهم وتكذيبهم في (ص) وأنهم لم يسمعوا بمثل هذا، فقالوا: ﴿مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰق﴾. 8 – وكرروا إنكارهم أن يكون الله اختار محمداً لرسالته دونهم، فقال على لسانهم: ﴿أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ﴾ (8)، ولم يذكر مثل ذلك في (ق). 9 – توعدهم ربنا في (ص) وهددهم بقوله: ﴿بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾، والنفي ب ﴿(لمَّا﴾) يعني أنهم لم يذوقوا عذابه إلى الآن، وهو متوقع أن يذوقوه، وهو تهديد لهم وتوعد بارتقاب العذاب، ولم يقل مثل ذلك في (ق). 10 - وذكر في (ص) أن جندهم سيهزم فقال: ﴿جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ١١﴾. ((وهذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم والظفر بهم. وقد وقع ذلك ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله)). 11 – ذكر في السورتين طرفاً من الأمم السابقة المُكذبة غير أنه أكد التكذيب في (ص) أكثر مما في (ق). فقد قال في (ص): ﴿إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ١٤﴾ وقال في (ق): ﴿كُلّٞ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ١٤﴾، فزاد التكذيب توكيداً في (ص) بأسلوب القصر فقال: ﴿إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ﴾، ولم يقل مثل ذلك في (ق). هذا إضافة إلى أنه وصف فرعون في (ص) بما لم يصفه في (ق)، فقال: ﴿وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَاد﴾ ولم يصفه بذاك في (ق). ومما قيل في وصف ذي الأوتاد أنه كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض وقيل غير ذلك. 12 – ثم توعدهم في (ص) بعذاب يأخذهم لا يمهلهم، فقال: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ١٥﴾ [ص: 15]، أي :( (ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حلبتي الحال ورضعتي الراضع))، ولم يذكر مثل ذلك في (ق). 13 – وذكر في (ص) أن هؤلاء المشركين دعوا على أنفسهم بتعجيل العذاب والعقوبة إمعاناً في التكذيب، فقال: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ١٦﴾ [ص: 16]. جاء في ((تفسير ابن كثير)): ((﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم تعجيل العذاب فإن القط هو الكتاب، وقيل: هو الحظ والنصيب. {قال غير واحد من المفسرين}: سألوا تعجيل العذاب ... كما قالوا: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ٣٢﴾ [الأنفال: 32]، ولم يذكر مثل ذلك في (ق). 14 – أمر رسوله في (ص) بالصبر على ما يقولون، فقال: ﴿ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ﴾ (17)، ولم يذكر مثل ذلك في (ق) في هذا السياق. فاتضح أن موقف الكافرين في (ص) أشد وأعتى فاستحقوا الزيادة في التهديد فقال: ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ الذي هو أشد من الوعيد، فناسب كل سياق ما ورد فيه. ثم إنه ناسب كل تعبير ماكينة من جهة أخرى: فقد قال في (ص): ﴿إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ﴾ فكان أسلوب التكذيب في (ص) أشد وآكد لأنه جاء بأسلوب القصر فاستحقوا من العقوبة ما هو أشد مما هو في (ق). 15 – وإضافة إلى ذلك أن كلمة ﴿وَعِيدِ﴾ وردت في (ق) أربع مرات ولم ترد في (ص)، بل هي أكثر سورة في القرآن وردت فيها هذه اللفظة. وأن كلمة ﴿العقاب﴾ لم ترد في (ق)، فناسب كل تعبير مكانه من جهة أخرى، والله أعلم. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 158: 162)

ﵟ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﵞ سورة ص - 14

ﵟ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ۚ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﵞ سورة ق - 14


Icon