الوقفات التدبرية

قال سبحانه في سورة الشورى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ...

قال سبحانه في سورة الشورى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ٤٩ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ٥٠﴾ [الشورى: 49-50]. سؤال: 1 – لماذا قدّم الإناث على الذكور، ونكر الإناث، وعرّف الذكور في الآية التاسعة والأربعين؟ 2 – لماذا جمع الذكر على الذكور في الآية الأولى، وعلى ﴿ذكران﴾ في الآية التي قبلها؟ الجواب: 1 – إن الجواب عن السؤال من أكثر من وجه: منها: أنه تردد في السورة في أكثر من موضع ما لا يرغب فيه الإنسان ولا يشاؤه، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ٣٠﴾ [الشورى: 30]، وقوله: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ﴾ (40). وقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ٤٣﴾، وواضح أن ههنا على المكاره ومغفرة ما يسوؤه من الأمور. وقوله: ﴿وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِنَّا رَحۡمَةٗ فَرِحَ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ فَإِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ كَفُورٞ٤٨﴾. وقوله ﴿لِّلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ٤٩﴾. فقدم ما لا يرغب فيه أهل الجاهلية آنذاك، وهو متسق مع ما تردد في السورة كما ذكرنا؛ ثم إن سياق الكلام في أن الله فاعل ما يشاء لا ما يشاؤه الإنسان ويهواه، فقد قال: ﴿يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ﴾، أي ما يشاؤه هو، ولا ما يشاؤه الإنسان، وذلك لحكمة أرادها سبحانه. جاء في ((روح المعاني)): ((ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة، وإصابته بضدها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك، وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الإنسان بهواه)). ثم إن هذا التقديم ناسب ذكر البلاء في الآية التي سبقت هذه الآية وهو وقله: ﴿وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ فَإِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ كَفُورٞ٤٨﴾. ومجيء الإناث مما يُسئ العرب آنذاك، وهو ما يكرهونه لأنفسهم كما أخبر عنهم سبحانه: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ٥٨ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ٥٩﴾ [النحل: 58-59]، فجعلها في سياق ما يصيبهم مما يكرهون. وقيل: قد يكون التقديم توصية برعايتهن لضعفهن وإن إحسان التربية إليهن ستْرٌ من النار كما في الحديث. أما تعريف الذكور وتنكير الإناث، فقد قيل: إنه ((جاء لفظ الذكور معرّفاً ليشير –بما تُعطيه الألف واللام من العهدية- إلى حالهم من الفضل، ودرجة التقدم على الإناث، فكأنه في قوة أن لو قيل: الذين من شأنهم فتوازن تقديم الإناث وتعريف الذكور، فقدّم الإناث لإرغام العرب، وعرّف الذكور لشرف المنزلة)). وقيل: إن التعريف على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وإنه الذي عقدوا عليه مناهم. قم إن العرب يُكنون عن النساء ولا يذكرون أسماءهن صوناً لهن بخلاف الذكور، فالذكور معارف عند العرب مشاهير عندهم، بخلاف الإناث، فإنهن مصونات مستورات لا يبرزن ولا يُعرفن، فعرّف ونكّر بحسب ما جرت العادة عندهم من استحسان كل جنس، والله أعلم. 2 – أما الجواب عن السؤال الثاني، وهو أنه لماذا جمع الذّكَر مرة على الذكور، ومرة على ذكران؟ فهذا له سببه فإن القرآن الكريم يستعمل (فُعلان) في الجمع للقلة النسبية. وعلى هذا حيث ورد هذان الجمعان في القرآن كان الذُّكران أقل من الذكور، وفي الآية هذه قال تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ٤٩ أَوۡ يُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانٗا وَإِنَٰثٗاۖ وَيَجۡعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًاۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٞ قَدِيرٞ٥٠﴾ (الشورى: 49 – 50). ((فاستعمل الذكور للكثرة، والذكران للقلة النسبية فإن العادة أنه إذا أفرد شخص بالذكور كانوا أكثر من أن يقرنهم بالإناث، فإن المرأة إذا ولدت ذكوراً فقط كان عدد الذكور أكثر في العادة من أن تلد ذكراناً وإناثاً. وقال تعالى ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ١٦٥﴾ [الشعراء: 165]، وقال: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ﴾ [الأنعام: 139]، فاستعمل الذكران للقلة النسبية، فإن الموصوفين بهذه الصفة لا يأتون جميع الذكور، وإنما يأتون صنفاً خاصاً منهم، ألا ترى أنهم لا يأتون الأطفال والشيوخ، وإنما يأتون مَن تستسيغه نفوسهم المنكوسة من الذكران، وهم أقل من مجموع الذكور بخلاف قوله تعالى: ﴿خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا﴾ فإنه يشمل جميع الذكور بلا استثناء، والله أعلم. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 170: 172)

ﵟ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﵞ سورة الشورى - 49


Icon