الوقفات التدبرية

– قال تعالى في سورة الزخرف: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا...

– قال تعالى في سورة الزخرف: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ٢٢﴾ [الزخرف: 22]. وقال في الآية التي تليها: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ٢٣﴾ [الزخرف: 23]. سؤال: لماذا قال في الآية الأولى في كفار العرب المعاصرين للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقد ذكر عنهم أموراً تتعلق بمعتقداتهم في الملائكة والعبادات ومحاجتّهم في ذلك. فقد قال عنهم في سياق هذه الآيات: إنهم قالوا عن الله سبحانه: إنه اتخذ مما يخلق بنات يعنون الملائكة، فقال لهم سبحانه: ﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ١٦﴾ [الزخرف: 16]. وقال ذاكراً معتقداتهم في الملائكة: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ١٩﴾ [الزخرف: 19]، وحكى عنهم ما كانوا يعتقدون في المشيئة، فقال: ﴿وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ﴾ (20). وردّ عليهم سبحانه بعدم العلم قائلاً: ﴿مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ٢٠﴾ نافياً عنهم العلم بذلك. وهذه مما يحتاج إلى الهدى، ولا تُقال تخرصاً وظناً، ثم قال سبحانه نافياً عنهم أسباب الهدى والعلم: ﴿أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا مِّن قَبۡلِهِۦ فَهُم بِهِۦ مُسۡتَمۡسِكُونَ٢١﴾ (21)، ولما كانت هذه الأمور تحتاج إلى الهدى احتجوا بأنهم مهتدون بآثار آبائهم، فقالوا: إنهم وجدوا آباءهم على ملة أو دين، وهم مهتدون على آثارهم. وأما الآية الأخرى فهي في الأمم السابقة فقد قال: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ٢٣﴾ [الزخرف: 23]. ولم يذكر عنهم معتقداً ولا احتجاجاً ولا سبباً من أسباب العلم والهدى، فلم يقتض ذكر الهدى. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنه ذكر قولهم مُترفيهم ، والمترفون لا تعنيهم أمور العبادات ولا يعنيهم الهدى ، ولم يذكر القرآن الذين أُترفوا والمترفين بخير بل حيث ذَكَرَهُم َذَكَرَهُم مُعاندين مُعرضين مُكذبين مُحاربين لله ورُسله ، لا يعنيهم شيء من أمور الهدى ، فلم يذكروا الهدى ، وإنما ذكروا أنهم مُتبعون لآبائهم شيء من أمور الهدى ، فلم يذكروا الهدى ، وإنما ذكروا أنهم مُتبعون لآبائهم مقتدون على أية حال ، والاقتداء هو الاتباع على أية حال سواء كان القدوة ضالا أم مهتدياً ، جاء في (( المفردات في غريب القرآن )) : (( الأسوة والإسوة كالقِدوة والقُدوة ، وهي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبيحاً ، وإن سارًّا وإن ضارًّا ، ولهذا قال تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21] فوصفها بالحسنة )). جاء في ((درة التنزيل)) في سيب الاختلاف بين هاتين الفاصلتين في الآيتين المذكورتين من سورة الزخرف: ((الجواب أن يقال: إن الأولى حكاية قول الكفار الذين حاجّوا النبي (صلي الله عليه وسلم)، فقال مخبراً عنهم: ﴿أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا مِّن قَبۡلِهِۦ﴾ أي: من قبل القرآن ﴿فَهُم بِهِۦ مُسۡتَمۡسِكُونَ٢١﴾ (الزخرف :21) أي كتاباً فيه حجة بصحة دعواهم فهم متعلقون به ... وقال تعالى: لا حجة لهم لكنهم قالوا وجدنا آباءنا على ملة وطريقة في الدين مقصودة، ونحن في اتباع آثارهم على هداية، فادّعَوا الاهتداء بسلوكهم سبيل آبائهم. وأما الآية الثانية فإنها خبر عن الأمم الكافرة بأنبيائها، قال: ﴿مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ﴾ [الزخرف: 23] إلا قال ذوو النعم والأموال من أهلها قريباً من قول هؤلاء الذين في عصرك يا محمد، فكان أقصى ما احتجوا به أن قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة فاقتدينا بهم، ولم يؤكد الخبر عنهم بدعواهم الاهتداء كما أكده عمّن كان في عصره ممن يدعيه لبطلان قول الجميع)). وجاء في (( ملاك التأويل )) في هاتين الآيتين : (( ووجه ذلك –والله أعلم- أن ما تقدم الآية الأولى حكاية قول كفار العرب المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسامعين منه القرآن المسمى هدى في غير موضع كقوله تعالى :﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] وقوله : ﴿هَذَا هُدًى﴾ [الجاثية: 11]وقوله : ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ٣﴾ [لقمان: 3] فلما دعاهم صلى الله عليه وسلم ليهتدوا بهدية قابلوا دعاءه بقولهم : إنهم مهتدون ، وإنهم وجدوا آباءهم على أمة ، وأن ما وجدوهم عليه هدى ، فقالوا : ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف: 22] أي على دين وملة ﴿وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ﴾ كهديهم فلما دعاهم إلى الهدى زعموا أنهم على هدى . وهذا أبين تناسب. وأما الآية الثانية فحكاية أقوال قرون مختلفة، وقد ذكر تعالى من قول بعضهم: ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ٥٣﴾ [الأنبياء: 53] وفي موضع: ﴿كَذَٰلِكَ يَفۡعَلُون﴾ فهذا اتباع مجرد من ادّعى كونه هدى أو غير هدى، فهو اعتراف بتقليد واتباع بتعظيم لفعل آبائهم من غير ادعاء شبهة، فلم يكن ليطابق هذا إلا الوارد من قوله تعالى عنهم: ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]، فجاء كلٌّ على ما يناسب والله أعلم)). (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 173: 175)

ﵟ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﵞ سورة الزخرف - 22


Icon