لماذا يخبر ربنا عن الملائكة بالتذكير أحياناً وبالتأنيث أحياناً أخرى فمّرة يقول: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ٣٠﴾ [الحجر: 30] بالتذكير.
ومرة أخرى يقول: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ [آل عمران: 39] بالتأنيث؟
الجواب: إن في القرآن خطوطاً تعبيرية في تذكير وتأنيث الملائكة، من ذلك:
1 – أن كل أمر يصدر إلى الملائكة يكون بصيغة المذكر، وذلك نحو قوله: ﴿ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ﴾
( البقرة : 34 ) ، وقوله : ﴿أَنۢبُِٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ﴾ (البقرة : 31 ) ، فلم يأمرهم بصيغة المؤنث ، فلم يقل مثلاً : (اسجدي ) ونحوه ، وذلك للتنصيص على أن الملائكة ليسوا إناثاً كما كان يعتقد أهل الجاهلية الذين حكى الله عنهم ذلك بقوله : ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ﴾ [الزخرف: 19] ، وغير ذلك من الآيات ، فإن الضمير (الواو) خاص بالعقلاء الذكور ، بخلاف ما لو أمر بالتأنيث نحو : ( اسجدي ) فإنه يكون للأنثى العاقلة وغيرها ، ولجماعة غير العاقل ذكوراً وإناثاً ، وذلك نحو : ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾ [سبأ: 10] ، وقوله : ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ﴾ [النحل: 68] وهو من باب تصحيح المعتقد الباطل .
2 – كل فعل يقع بعد ذكر الملائكة يكون بصيغة المذكر، وذلك نحو قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ [النساء: 166]، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ٢٣﴾ [الرعد: 23]، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: 5]، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ﴾ [الإسراء: 95].
فلم يقل: (والملائكة تشهد)، ولا: (والملائكة تسبح بحمد ربها) ولا نحو
ذلك.
3 – كل وصف لهم بالاسم يكون بصورة المذكر، وذلك نحو قوله: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: 172]، ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: 93] ﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125]، فلم يقل مرة نحو: (الملائكة المقربة)، أو (من الملائكة مسومة).
4 – كل فعل عبادة يكون بلفظ التذكير؛ لأن ذلك أكمل وذلك نحو:
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30]، ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم: 6].
5 – إذا كان ثمة من آخر كأن يكون موقفا عذاب أحدهما أشد من الآخر جيء بما هو أشد بالتذكير للدلالة على قوة الأمر وشدته، وذلك نحو قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ٥٠﴾ [الأنفال: 50].
وقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ٢٧﴾ [محمد: 27].
فجاء بآية الأنفال بالتذكير ﴿يَتَوَفَّى﴾، وبآية محمد بالتأنيث ﴿تَوَفَّتْهُمُ﴾ وذلك أن آية الأنفال في سياق وقعة بدر.
ثم إنه قال: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيق﴾، ولم يقل مثل ذلك في آية محمد، كما أنها ليست في سياق حرب، فجاء بما هو أشد بصيغة المذكر.
6 – في موقف البُشْرى يأتي بصيغة المؤنث، فلم تأت البشرة بصيغة التذكير، وذلك نحو: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: 39]، ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ٤٢﴾ [آل عمران: 42].
وانظر كيف جاء في موقف الشدة بالتذكير في قوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا٢٥ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا٢٦﴾ [الفرقان: 25-26].
وفي موقف البُشْرى بالتأنيث، في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ٣٠﴾ [فصلت: 30].
فقال في الأولى: ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾، وقال في آية البشرى: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾.
قد تقول: لكن الملائكة بشرت سيدنا إبراهيم، وكان الفعل الذي أُسند إليهم بصيغة التذكير، قال تعالى: ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ﴾ (الذاريات: 28).
فنقول: إنه لم يرد ذكر للملائكة في هذه القصة، بل ورد ذكر الضيف، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ٢٤﴾ [الذاريات: 24] فأسند القول إلى الضيف، ولم يُسنده إلى لفظ الملائكة.
(أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 189: 191)
ﵟ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﵞ سورة الحجر - 30
ﵟ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﵞ سورة آل عمران - 39