الوقفات التدبرية

قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...

قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ١٨٠﴾ [البقرة: 180] بالفعل ﴿حَضَرَ﴾. وقال في موطن آخر: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ٦١﴾ [الأنعام: 61] بالفعل ﴿جَاءَ﴾، فما الفرق بينهما؟ الجواب: إن الحضور نقيض المغيب والغيبة، وهو بمعنى الشهود، وهو يختلف عن المجيء، وإيضاح ذلك أنك تقول: (كنت حاضراً إذ كلمه أبوك) فهذا ليس معناه أني كنت قادماً حين كلمه، بل معناه: كنت موجوداً حين كلمه أبوك. وتقول: (كنت حاضراً مجلسهم) أي شاهداً مجلسهم، لست غائباً، وليس معناه كنت قادماً إلى مجلسهم. ونقول: (الله الحاضر في كل مكان) أي الموجود في كل مكان ﴿بعلمه﴾، وليس معناه (الله القادم في كل مكان) أو إلى كل مكان. ولذا لا يصح أحياناً وضع إحدى الكلمتين مكان الأخرى. ففي قوله تعالى في السد الذي صنعه ذو القرنين مثلاً: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا٩٨﴾ [الكهف: 98] لا يصح أن يقال للمعنى نفسه (فإذا حضر وعد ربي جعله دكّاءَ) فإن الوعد هو القيامة أو غيرها ليس موجوداً في ذلك الوقت بل سيأتي. وفي قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ [هود: 40] لا يصح أن يقال للمعنى نفسه: (حتى إذا حضر أمرنا) فكأنه كان موجوداً في مكان آخر ثم حضر، بل هو سيأتي في حينه، فإن الحضور يُقال لما هو موجود. وأما المجيء فيحتمل الأمرين: المجيء بعد أن لم يكن موجوداً أصلاً أو كان موجوداً في مكان ثم قدم إلى مكان آخر. قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا١٠٤﴾ [الإسراء: 104]. ولا يصح أن يقال للمعنى نفسه: (فإذا حضر وعد الآخرة). ونحوه الكثير، وذلك نحو وقوله: ﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ [المؤمنون: 44]، وقوله ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: 19]، فذلك ونحوه لا يصح إبدال: ﴿حضر﴾ فيه ب﴿جاء﴾. ونعود إلى الاستعمال القرآني لهذين الفعلين في نحو: ﴿حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ﴾ و: ﴿جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ﴾. فالقرآن يستعمل حضور الموت مع الوصايا والأحكام، أما مجيء الموت فيستعمله لذكر ما يتعلق بالموت، أو ما يتعلق بالناس وأحوالهم فيه، أو فيه وفيما بعده. وإيضاح ذلك أنه قال في حضور الموت: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ١٣٣﴾ [البقرة: 133]. فلم يذكر شيئاً يتعلق بالموت، وإنما هو ذكر لوصية يعقوب لبنيه عند حضور الوفاة. وقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ١٨٠ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ١٨١﴾ [البقرة: 180-181] وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [المائدة: 106]. وهذه كما ترى في الوصايا ليست في ذكر ما يتعلق بالموت، فكأن الموت يكون شاهداً مع مَن يشهد. وقال : ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا١٦ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا١٧ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ [النساء: 16-18]. وهذا في حكم التوبة وأوانها، وأنها ليست عند حضور الموت، فليس في هذه الآيات شيء يتعلق بالموت، أو بحالة المتوفى فيه. وقال في مجيء الموت: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ٦١ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ٦٢﴾ [الأنعام: 61-62]. فذكر أمر يتعلق بالموت وحالتهم فيه، وأنهم يردون إلى ربهم بعد ذلك. وقال: ﴿يَحۡضُرُونِ٩٨ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ١٠٠ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ﴾ (المؤمنون: 99) وما بعدها. فذكر أنه إذا جاء أحدَكم الموتُ سأل ربه أن يُعيده لعله يعمل صالحاً فقد ذكر شأن المتوفى من هؤلاء، ثم ذكر بعده أموراً تتعلق بالقيامة. وقال ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ١٩ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ٢٠ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ٢١﴾ [ق: 19-21]. فقد ذكر أمراً يتعلق بالموت وهو أن الميت كان يهرب منه، ثم ذكر ما بعد الموت من أحوال القيامة. فاتضح أن مجيء الموت يستعمله القرآن لما يتعلق بالموت، أو بحال الميت فيه، أو فيه وفيما بعده. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 192: 195)

ﵟ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﵞ سورة البقرة - 180

ﵟ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﵞ سورة الأنعام - 61


Icon