الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية هذه الآية هي بعد قوله تعالى (وهديناه النجدين)...

برنامج لمسات بيانية هذه الآية هي بعد قوله تعالى ﴿وهديناه النجدين﴾ والنجدين كما أسلفنا هو الطريق المرتفع في الأرض ثم قال بعدها ﴿فلا اقتحم العقبة﴾ والعقبة هي طريق في الجبل وعِر أو الجبل الطويل بعرض الطريق (طويل صعب شديد) هذا في العقبة أما الإقتحام فهو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقّة (والقحمة هي الشدة والمهلكة) . فلو لاحظنا اختيار العقبة مع اقتحم وبعد النجدين لوجدنا أن النجد وهو الطريق المرتفع يؤدي إلى العقبة من حيث سلوك الطريق، والعقبة تقع عادة بعد النِجاد أو في المرتفعات من الأرض إذن وضع العقبة بعد النجدين ومع كلمة اقتحم هو وضع طبيعي حداً وهو من الناحية البلاغية البيانية الفنية ذروة البلاغة من حيث الإختيار. ثم إن الله تعالى فسّر العقبة بما يتبعها من آيات ﴿فك رقبة(13) إطعام في يوم ذي مسغبة(14)﴾ فكلمة اقتحم هي من أنسب الألفاظ لهذا الوصف لأن الإقتحام يتناسب مع العقبة والشّدة ولو قال اجتاز أو عبر مثلاً لما أعطى المعنى المطلوب واختيار كلمة اقتحم هو للدلالة على أن الأمر مخيف وشديد ومُهلك وليس سهلاً يسيراً وليس من العقبات التي تُجتاز بسهولة ويسر وإنما تحتاج إلى اقتحام وفيها شدة وصعوبة. فلو لاحظنا ﴿فلا اقتحم العقبة﴾ ومن قبلها ﴿وهديناه النجدين﴾ لوجدناها متناسبة ومرتبطة بقوله تعالى ﴿لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾ وقد قلنا أن من معاني الكبد المشقة والقوة واقتحام العقبة فيه مشقة ووتعب ويحتاج إلى قوة وفيها ارتباط بمعنيي الكِبِد (المشقة والقوة). ﴿لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾ يتناسب مع ما سيأتي من آيات في تفصيل معنى العقبة من المشقات ﴿فك رقبة(13) إطعام في يوم ذي مسغبة(14)﴾. لا: أية لا هذه وما حكمها؟ نظر المفسرون في ﴿لا﴾ هذه والمعروف في قواعد اللغة العربية أن ﴿لا﴾ إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد النفي كما في الفعل المضارع. و﴿لا﴾ لا تنفي الفعل الماضي إلا إذا كُررت مثل قوله تعالى ﴿فلا صدّق ولا صلّى﴾ ولا نقول في اللغة لا ذهب بمعنى لم يذهب ولإنما يقال ما ذهب للدلالة على نفي الفعل الماضي. إذن لا يصح ولا يجوز القول لا مع الفعل الماضي للنفي. لكن يبقى السؤال هل ﴿لا﴾ في هذه الآية نفي؟ قسم من المفسرين قال قد تفيد النفي واستشهدوا على ذلك ببعض ما ورد في أشعار العرب مع أنها على غير سنن العرب (وأيّ أمرٍ سيء لا فعل)، ومنهم من قال إنها تفيد الدعاء وليس النفي، كما يقال: لا فضّ الله فاك أو يقال لا عافاك الله، لا ردّه الله سالماً وغيرها، وقد تكون للدعاء عليه بأن لا يقتحم العقبة فهذا الشخص الذي أنفق ماله في غير وجه خير دعا عليه بأن لا يقتحم العقبة إذن اعتبروها قسم من المفسرين على أنها للدعاء وليس للنفي. وقسم آخر رأوا أنها تفيد نفي الإستقبال: في العربية إذا كان الفعل الماشي يفيد الإستقبال يجوز استخدام ﴿لا﴾ ويجوز نفيه بـ ﴿لا﴾ كقولنا (والله لا فعلت ذلك أبداً) بمعنى لا افعله، فإذا كان الفعل للإستقبال يجوز أن تدخل عليه ﴿لا﴾ باعتبار الدلالة الزمنية (تالله لا عذّبتهم بعدها سقر). فلا اقتحم العقبة تفيد إذن في هذه الحالة نفي الإستقبال بمعنى لا يقتحم العقبة في المستقبل. ومنهم من قال إنها استفهام وقد حذفت همزة الإستفهام (ألا اقتحم العقبة) وكأن هذا الإستفهام للتوبيخ على ما حصل وللحضّ على اقتحام العقبة. وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة حذفت منها همزة الإستفهام (مثل قوله تعالى مرة في سورة الشعراء: أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين) وفي آية أخرى ﴿إن لنا لأجراً﴾. وحذف حرف الإستفهام خاصة الهمزة كثير في الشعر والنثر عند العرب . وخلاصة القول أن ﴿لا﴾ في قوله تعالى ﴿فلا اقتحم العقبة﴾ قد جمعت كل هذه المعاني التي ذكرنا وفيها احتمالات النفي والدعاء والإستقبال والإستفهام وهذ ما يُسمّى في اللغة باب التوسّع في المعنى فكل المعاني مُرادة سواء كان للصنف أم للشخص الذي أهلك مالاً لُبدا لم يقتحم العقبة ولا يقتحمها في المستقبل ودعاء عليه بأن لا يقتحمها إلا إذا أصلح حاله وتوبيخ على أنه لا يقتحمها فقد جمعت كل هذه المعاني معاً ولو جاء بأي حرف آخر مثل (ما أو لم) لما أمكن جمع كل هذه المعاني وأي حرف آخر كان أُوّل إلى معنى النفي فقط ولكن ﴿لا﴾ جاءت بأربع أو خمس معاني كلها مقصودة.

ﵟ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﵞ سورة البلد - 11


Icon