الوقفات التدبرية

برنامج اسرار بيانية لماذا جاءت هذه الآية عقب الآية السابقة: (فإما...

برنامج اسرار بيانية لماذا جاءت هذه الآية عقب الآية السابقة: (فإما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى) ولم تأت آية مثلها عقب الآية: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى)؟ في الآية ذكر الله تعالى أن الذي بخل، بخل بماله واستغنى من الغنى فلما بخل ذكر (ما يغني عنه ماله) و(ما يغني عنه ماله) وضع المفسرون لها احتمالين: الاول أن تكون نافية والثاني أن تكون استفهامية ومن باب التقريع والتوبيخ. ويسمى هذا في اللغة من باب الاتساع في المعنى، فلو أراد تعالى بالآية معنى الاستفهام لقال تعالى: (ماذا يغني عنه ماله) ولو أراد النفي لقال تعالى: (لم يغني عنه ماله) وانما جاء سبحانه وتعالى بلفظ يتسع للمعنيين وهو يريدهما معا فكأنما يريد القول ماذا يغني عنه ماله ولم يغني عنه ماله، اي يريد الاستفهام للتوبيخ والتقريع والنفي ايضاً ولهذا يضع سبحانه وتعالى جملة فيها اتساع في المعنى وهذا الاسلوب يتكرر في القرآن فقد يستعمل سبحانه وتعالى ألفاظاً تحتمل معاني عدة قد تصل إلى اربع او خمس معاني للفظ الواحد وهذا من البلاغة التامة حتى لا تتكرر الآية بمعنى مختلف في كل مرة وأنما يؤتى بها بلفظ معين يتسع لكل المعاني المقصودة. وهذا لا يعني تناقضاً او عدم تحديد في القرآن كما قد يتبادر الى اذهان المستشرقين لأن الله تعالى عندما يريد التقييد يأتي بحرف او كلمة محددة تفيد المعنى المراد كما في قوله سبحانه: ﴿اذكروا الله ذكراً كثيرا﴾ فقد حدد هنا الذكر الكثير وفي موضع آخر ﴿واذكروا الله كثيراً﴾ لم يرد التقييد ولم يحدد انما اطلق المعنى. فالقاعدة أن ننظر ماذا يريد المتكلم البليغ، هل يريد التحديد فهو يحدد. في الآية الكريمة: ﴿ولا تشركوا به شيئا﴾ سورة النساء، آية 36، فيها اطلاق والآية: ﴿ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ فيها تخصيص. في الآية الاولى لا ندري ما المقصود بـ ﴿شيئا﴾ هل شيئا من الاشياء التي يشرك بها كالأصنام او الاشخاص او غيره او المقصود شيئا من الشرك (شرك أعلى او شرك أصغر) ولو أراد أن يخصص لقال كما في الآية ﴿ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ سورة الكهف، آية 110، أحدا هنا لا تحتمل غير معناها لأنها محددة. لذا فإن الآية ﴿ولا تشركوا به شيئا﴾ تحتمل المعنيين والمراد منها أن لا نشرك بالله شيئا من الشرك او شيئا من الاشياء كالأصنام والبشر وهذا يسمى اتساع في المعنى. مثال آخر في الآية: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا﴾ سورة النساء، آية 160، هل المعنى خلقا كثيرا او صدا كثيرا او زمنا كثيرا؟ انها كل هذه المعاني الصد الكثير والخلق الكثير والوقت الكثير ولو أراد سبحانه أحد هذه المعاني فقط لجاء بلفظ يدل على المعنى المطلوب ولحدد وخصص. *ما الحكم البياني في استخدام ﴿إذا﴾ بدلا عن ﴿إن﴾: (وما يغني عنه ماله إن تردى) بدل ﴿وما يغني عنه ماله إذا تردى﴾؟ إذا في كلام العرب تستعمل: للمقطوع بحصوله كما في الآية: ﴿إذا حضر أحدكم الموت﴾ ولا بد ان يحضر الموت، ﴿فإذا انسلخ الاشهر الحرم﴾ ولا بد للأشهر الحرم من أن تنسلخ، وقوله تعالى: ﴿وترى الشمس إذا طلعت﴾ ولا بد للشمس من أن تطلع وكقوله: ﴿فإذا قضيت الصلاة﴾ ولا بد للصلاة أن تنقضي. وللكثير الحصول كما في قوله تعالى: ﴿إذا قمتم الى الصلاة(6)﴾ و ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها او ردوها﴾ تفيد الحدوث الكثير. واذا جاءت ﴿إذا﴾ و﴿إن﴾ في نفس الآية تدل ﴿إذا﴾ على الكثير و﴿إن﴾ على الاقل كما في قوله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلكم الى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا﴾ سورة المائدة، آية 6، فإقامة الصلاة أكثر حدوثا من الجنابة لذا استعملت ﴿إذا﴾ مع اقامة الصلاة و﴿إن﴾ مع الجنب. ﴿إذا﴾ وردت في القرآن الكريم في 362 موقعاً ولم تأت في موقع غير محتمل البتة فإما أن تأتي بأمر مجزوم بوقوعه كما في الآيات التي تصف الآخرة كقوله: ﴿إذا الشمس كورت(1) واذا النجوم انكدرت...(2)﴾لأن كل آيات الآخرة مقطوع بحصولها، او كثير الحصول كما ورد سابقاً. ﴿إن﴾ تستعمل لما قد يقع ولما هو محتمل او مشكوك فيه او نادر او مستحيل كما في قوله: ﴿أرايتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا﴾ الموقف هنا افتراضي، وقوله: ﴿وإن يروا كسفا من السماء ساقطا(44)﴾ لم يقع ولكنه احتمال. وقوله تعالى: ﴿انظر الى الجبل فإن استقر مكانه(143)﴾ افتراضي واحتمال وقوعه. والتردي حاصل والتردي اما أن يكون من الموت او الهلاك، او تردى في قبره، او في نار جهنم فماذا يغني عنه ماله عندها؟وهذه ليست افتراضاً وانما حصولها مؤكد وهي امر حاصل في كل لحظة ولهذا السبب جاء بلفظ ﴿إذا﴾ بدل ﴿إن﴾ لأن ﴿إذا﴾ مؤكد حصولها) و﴿إن﴾ مشكوك فيها او محتمل حدوثها. وهذه إهابة بالشخص أن لا يبخل او يطغى او يكذب بالحسنى،إذن لا مفر منه فلماذا يبخل ويعسر على الآخرين ويطغى ويكذب بالحسنى؟

ﵟ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ ﵞ سورة الليل - 11


Icon