الوقفات التدبرية

﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ...

﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ١٩٠﴾ [آل عمران: 190] * * * الخلق: التقدير. والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه. وخلق السموات والأرض: إيجادهما وإنشاؤهما على ما هما عليه. والخلق يحتمل المصدر ، أي: الإنشاء والإيجاد ، ويحتمل المخلوق، وذلك كما يقال: (هم شر الخلق) و (شرار الخلق الذين تدركهم الساعة وهم أحياء) أي: المخلوقات. وقوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ﴾ يحتمل أن في إنشائهما وإيجادهما لآيات. ويحتمل أن في ذات السموات والأرض وصفاتهما لآيات ، أي: إن في السموات والأرض لآيات. جاء في (البحر المحيط): ((﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ﴾ وخلقها: إيجادها واختراعها ، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها ، من قولهم: خلق فلان حسن ، أي: خلقته وشكله)). والآية تدل على الأمرين: فإن في خلقها وكيفية إيجادها وإنشائها لآيات. وإن في السموات والأرض أنفسهن لآيات. والظاهر أن الأمرين مرادان. ولو أراد السموات والأرض تنصيصًا لذكرهما من دون ذكر الخلق معهما ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ٣﴾ [الجاثية: 3] فإنه في خلق السموات والأرض ، وفي السموات والأرض لآيات لأولي الألباب. فإن أولى الألباب يتفكرون في خلقها وفي ذاتها وما فيها من العجائب ومظاهر القدرة. و(اللب): هو خالص العقل وجوهره، جاء في (لسان العرب): ((لب كل شيء ولبابه: خالصه وخياره)). وفي (تاج العروس): ((لب الرجل: ما جعل في قلبه من العقل ، سمي به لأنه خلاصة الإنسان ، أو إنه لا يسمى ذلك إلا إذا خلص من الهوى وشوائب الأوهام.فعلى هذا هو أخص من العقل)). وفي (المفردات في غريب القرآن): ((اللب: العقل الخالص من الشوائب وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه كاللباب، واللب من الشيء. وقيل: هو ما زكا من العقل ، فكل لب عقل ، وليس كل عقل لبًّا. ولهذا علق الله تعالى الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب ، نحو قوله: ﴿يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ ونحو ذلك من الآيات)). فأولو الألباب هم أصحاب العقول الراجحة الخالصة من الهوى والشوائب. قد تقول: لقد قال في سورة البقرة: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ١٦٤﴾ [البقرة: 164]. فقال: ﴿ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ﴾ ، وقال في آية آل عمران: ﴿لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ فما الفرق؟ فنقول: لقد بينا الفرق بين العقل واللب، فإن اللب هو خالصه وخياره . وأما ختام كل آية بما ختم ؛ فإنه لما ذكر في آل عمران صفة المتفكرين في خلق السموات والأرض ، وأنهم يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى كل حال ، ويسبحونه ويدعونه ، دلّ ذلك على أن هؤلاء أعلى ممن ذكروا في آية البقرة، وأن عقولهم وتفكيرهم أعلى. فهؤلاء هو أولو العقول الخالصة الراجحة، ذلك أنه لم يذكر في البقرة وصفًا لهم غير العقل. فناسب كل تعبير موضعه. جاء في (تفسير الرازي) أنه ختم آية البقرة ((بقوله: ﴿ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ﴾ وختم هذه الآية بقوله: ﴿﴿لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾﴾ لأن العقل له ظاهر وله لب ، ففي أول الأمر يكون عقلاً ، وفي كمال الحال يكون لبًّا)). هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنه إذا كان للعقل ظاهر ولب ، فلبّ العقل أقل من مجموعه . فإن ظاهر العقل ولبه أعم من اللب وحده . وما ذكره في البقرة أعم مما ذكره في آل عمران. فإنه ذكر إضافة إلى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار الفلك التي تجري في البحر ، وإنزال الماء من السماء ، وإحياء الأرض بعد موتها ، وبث الدواب فيها ، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض. وهذا أعم مما ذكره في آل عمران وأشمل ، وما ذكره في آل عمران أخص. فناسب العموم العموم ، وهو العقل. وناسب الخصوص الخصوص ، وهو اللب. قد تقول: لقد قال في سورة الجاثية: ﴿ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ٣ وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ٤ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ٥﴾ [الجاثية: 3-5] فقال: ﴿ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ﴾ ولم يقل (في خلق السموات والأرض ) كما قال في آيتي البقرة وآل عمران. وقال: ﴿ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ ﴾ ولم يقل كما قال في البقرة ﴿ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ ﴾ ذلك أن السموات والأرض إنما يكونان بعد الخلق ، فإن الخلق إنما هو مصدر في الأصل ، ومعناه التقدير ، قال الحجاج : (ولا أخلق إلا فريت) أي: لا أُقدّر إلا قطعت. فالتقدير أولًا ، ثم الإيجاد بعده على ما قدر. وإن الرزق يكون بعد إنزال الماء ، فإنه بعده يحصل الرزق بما تنتج الأرض. قال تعالى: ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ ﴾ [البقرة: 22] فناسب ذكر السموات والأرض ذكر الرزق وناسب ذكر خلق السموات والأرض ذكر الماء. ثم إنه قال في آيات الجاثية: ﴿وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ﴾ ، والدواب تحتاج إلى الرزق لتعيش ، كما قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ ﴾ [العنكبوت: 60] فناسب كل تعبير موضعه. قد تقول: لقد قال في آية آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ فقدم خلق السموات والأرض على اختلاف الليل والنهار. وقال في يونس: ﴿إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ٦﴾ [يونس: 6] فقدم اختلاف الليل والنهار، فلم ذاك؟ فنقول : إن ذلك لأكثر من سبب، منها: 1- أنه قال قبل آية يونس: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ٥﴾ [يونس: 5] ومن المعلوم أن اختلاف الليل والنهار عائد إلى اختلاف مطالع الشمس. ولما تقدم ذكر الشمس والقمر قدم اختلاف الليل والنهار، والشمس آية النهار ، والقمر آية الليل. أما آية آل عمران فقبلها:﴿وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ١٨٩﴾ فذكر السموات والأرض ، فلما تقدم ذكرهما ناسب البدء بذكرهما ، وتقديمهما. 2- قال في آية آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ فذكر خلق السموات والأرض. وقال في آية يونس: ﴿ إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ﴾ فذكر خلق ما فيهما لا خلقهما ، وكثير مما خلق الله فيهما إنما هو بعد وجود الليل والنهار. فالنبات والحيوان ، ثم الإنسان إنما هي بعد وجود الليل والنهار ، وكثير مما هو في الأرض إنما هو بعد وجود الليل والنهار. وكذلك ما خلق الله في السماء ؛ فإن قسمًا من ذلك تكون بعد وجود الليل والنهار. وكثير من الظواهر الكونية إنما هي بعد وجود الليل والنهار. ويقال: إنه لا تزال تتشكل أجرام أو تندثر إلى الآن. فناسب تقديم ذكر الليل والنهار. 3- ومن الاختلاف بين الآيتين أنه ختم آية يونس بقوله: ﴿لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ﴾ ذلك أنه ختم الآية التي قبلها بقوله: ﴿يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُون﴾ والعلم يؤدي إلى التقوى وخشية الله كما قال ربنا:﴿ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ ﴾ [فاطر: 28] فناسب الختم بما ختم سبحانه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 25: 30)

ﵟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﵞ سورة آل عمران - 190


Icon