الوقفات التدبرية

﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ...

﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ١٩٢﴾ [آل عمران: 192] * * * تكرار النداء بقولهم ﴿ رَبَّنَآ ﴾ يدل على تضرعهم وتذللهم له. ﴿ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ ﴾ أي: فضحته وأهنته. ﴿ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ﴾ أي: ليس لهم من ناصر ينصرهم. وجاء بـ ﴿من﴾ الاستغراقية لتأكيد ذلك ولاستغراق نفي الأنصار على وجه العموم. جاء في (روح المعاني): ((أي: ليس لكل منهم ناصر ينصره ويخلصه مما هو فيه ... ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم ، والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم)). ثم إن اختيار ﴿الظالمين﴾ مناسب للسياق الذي وردت فيه الآية. وذلك ليشمل الذين قتلوا الأنبياء الذين ذكرهم فيما تقدم من قوله سبحانه: ﴿قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ١٨٣﴾ وقوله: ﴿وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ . . . ١٨٦﴾ وقوله بعد ذلك: ﴿فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي . . . ١٩٥﴾ وكل ذلك من فعل الظالمين. وقال: ﴿وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ﴾ بجمع النصير ، ولم يقل: ﴿وما للظالمين من نصير ﴾ كما قال في الحج( 71) ؛ لأن المذكورين في آية آل عمران أكثر ، وهم على مدى الأزمان. أما المذكورون في الحج فهم المذكورون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى:﴿وَإِن جَٰدَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَعۡمَلُونَ٦٨ ٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ٦٩﴾ ويستمر في ذكرهم. وهؤلاء قلة بالنسبة إلى عموم الظالمين، وقد يكون لهؤلاء نصير واحد ، فناسب ذكر المفرد. أما المذكورون في آية آل عمران فهم مستمرون إلى آخر الدنيا فلا يكون لهم نصير واحد. قم إنه ناسب الكثرة الجمع ، والقلة الإفراد. قد تقول: لقد قال في مواطن: ﴿ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ﴾ [آل عمران: 22 - 56]. فقال:﴿ نَّٰصِرِينَ٢٢﴾ وقال في مواطن: ﴿من أنصار﴾ فما الفرق؟ فنقول: إن (الأنصار) يحتمل أن يكون جمع ﴿نصير ﴾ كشريف وأشراف ، وأن يكون جمع ﴿ناصر﴾ فإن جمع ﴿النصير ﴾ على أنصار. و(الناصرون) جمع ناصر. و﴿النصير﴾ صيغة مبالغة ، و﴿الناصر﴾ اسم فاعل. والنصير أقوى من الناصر ، فإن نفيت الناصر كان نفي النصير من باب أولى. ونفي النصير لا يعني بالضرورة نفي الناصر ، فإن نفي الكثير لا يعني بالضرورة نفي القليل. فقولك: (مالك من ناصر) أقوى في نفي من ينصرك من قولك: (مالك من نصير) وهذا الأجر جارٍ في القرآن الكريم ، فإنه يقول: ﴿ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ ﴾ في الكفار ، وما هو أشد ضلالًا ، وفيمن هم أشد ضلالًا ، من قوله: ( ما لهم من أنصار). فإنه يقول في مواطن عدة: ﴿ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ٢٧٠﴾ [البقرة: 270] ، [آل عمران: 192] ، [المائدة: 72]. والظالم ليس كافرًا بالضرورة ، فإن الظالم قد يكون كافرًا وغير كافر. وأما قوله: ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِين﴾ فقد يقوله في الكفار ومن هو أشد ضلالًا. قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَيَقۡتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ٢١ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ٢٢﴾ [آل عمران: 21-2 فقد ذكر كفرهم وظلمهم لقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقتلهم من يأمر بالقسط من الناس ، فقال: ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِين﴾ وقال: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ٥٦﴾ [آل عمران: 56] فذكر الذين كفروا ، وذكر أنهم يعذبهم عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة ، فقال: ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِين﴾ وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ٩١﴾ [آل عمران: 91] فذكر الذين كفروا وماتوا وهم كفار. وقال: ﴿إِن تَحۡرِصۡ عَلَىٰ هُدَىٰهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَن يُضِلُّۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ٣٧ وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ٣٨﴾ [النحل: 37-38] فذكر أن الله لا يهدي من يُضل ، ومعنى ذلك أنهم يموتون على الكفر ، ثم ذكر أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ، فذكر أنه لا يؤمنون بالبعث. فهؤلاء كفار ضالون لا يهديهم الله. وقال في قوم إبراهيم الذين ألقوه في الجحيم: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَٰنٗا مَّوَدَّةَ بَيۡنِكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضٖ وَيَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّٰصِرِينَ٢٥﴾ [العنكبوت: 25] فذكر أن هؤلاء يعبدون الأوثان وذكر حالهم في الآخرة. وقال:﴿بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ فَمَن يَهۡدِي مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ٢٩﴾ [الروم: 29] فهؤلاء ظالمون يتبعون أهواءهم ، وإن الله أضلهم فلن يهديهم أحد ، ومعنى ذلك أنهم كافرون ظالمون . وقال:﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَيۡبَ فِيهَا قُلۡتُم مَّا نَدۡرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَيۡقِنِينَ٣٢ وَبَدَا لَهُمۡ سَيِّ‍َٔاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ٣٣ وَقِيلَ ٱلۡيَوۡمَ نَنسَىٰكُمۡ كَمَا نَسِيتُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّٰصِرِينَ٣٤ ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗا وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُخۡرَجُونَ مِنۡهَا وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ٣٥﴾ [الجاثية: 32-35] فهؤلاء منكرون للساعة مستهزئون بآيات الله ، وهم سيمكثون في النار لا يخرجون منها. فأنت ترى أن كل من قال فيهم: ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِين﴾ هم أشداء في الكفر ضالون لن يهديهم أحد. في حين قال:﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ٢٧٠﴾ [البقرة: 270] فلم يذكر غير الظلم فقال:﴿مِنۡ أَنصَارٍ﴾ وقال: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ١٩٢﴾ [آل عمران: 192] فذكر الظالمين. وكذا قال في المائدة:﴿ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ٧٢﴾ [المائدة: 72] (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 35: 40)

ﵟ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﵞ سورة آل عمران - 192


Icon