الوقفات التدبرية

﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي...

﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَ‍َٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّ‍َٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ١٩٣﴾ [آل عمران: 193] * * * كرروا نداء ربهم بقولهم: ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا ﴾ إظهارًا لتضرعهم وتذللهم. ﴿ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ ﴾ المنادي قيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل: هو القرآن ، قيل: لأنه ليس كل واحد يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما القرآن فظاهر باق على مرّ الأيام والدهور. قد تقول: لم لم يقل: (إنا سمعنا مناديًا للإيمان) ويكتفي ، ولكن جمع بين المنادي وفعله فقال: ﴿ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ ﴾ وأجيب عن ذلك بأنه للتعظيم والتفخيم. جاء في (الكشاف): ((فإن قلت: فأي فائدة في الجمع بين المنادي وينادي؟ قلت: ذكر النداء مطلقًا ثم مقيدًا بالإيمان تفخيمًا لشأن المنادي ، لأنه لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان. ونحوه قولك: مررت بهادٍ يهدي للإسلام. وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع. وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، وغير ذلك فإذا قلت: ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته)). وجاء في (روح المعاني): (( وفي إطلاق المنادي أولا حيث قال سبحانه: ﴿ مُنَادِيٗا ﴾ ولم يذكر ما دعي له ، ثم قوله عز شأنه: ﴿ يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ ﴾ ما لا يخفى من التعظيم لشأن المنادي والمنادى له. ولو قيل من أول الأمر: (مناديًا للإيمان) لم يكن بهذه المثابة. وحذف المفعول الصريح لـ ﴿ينادي﴾ إيذانًا بالعموم ، أي: كل واحد)). واختار (المنادي) على ﴿الداعي﴾ لأن النداء فيه رفع الصوت ، فكأنه رفع صوته بالدعاء إلى الله ليسمعه كل أحد. وجاء في (روح المعاني): ((وإيثاره على ﴿الداعي﴾ للإشارة إلى كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى القريب والبعيد ؛ لما فيه من الإيذان برفع الصوت)). وجاء في (التحرير والتنوير): (( المنادي الذي يرفع صوته بالكلام ، والنداء: رفع الصوت بالكلام رفعاً قويًّا لأجل الإسماع ... ومنه سمي الأذان: نداء. وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت)). وذكروا أنهم آمنو عن طريق السماع لا عن طريق رؤيته صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك إظهار لصدق إيمانهم وسرعة استجابتهم. فالذين آمنوا برسول الله ولم يروه لهم فضلهم وكرامتهم على الله. ثم إن ذكر السماع مناسب لذكر النداء ، فإن النداء يسمع. وقالوا: ﴿إننا﴾ بتكرار النون إشارة إلى توكيد ذلك جاء في (نظم الدرر) أنهم أظهروا النون في ﴿إننا﴾ إبلاغًا في التأكيد. قد تقول: ولكنه قال في مواطن: ﴿إِنَّا سَمِعۡنَا﴾ ولم يظهر النون ، وذلك في قوله تعالى على لسان الجن:﴿قَالُواْ يَٰقَوۡمَنَآ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٖ مُّسۡتَقِيمٖ٣٠﴾ [الأحقاف: 30] وقوله:﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدٗا٢﴾ [الجن: 1-2] وكلتا الآيتين على لسان الجن. فنقول الاختلاف من أوجه: ذلك أنهم ذكروا أنه سمعوا الكتاب ولم يسمعوا المنادي ، في حين أنه قال في آل عمران أنهم سمعوا المنادي. وسماع المنادي أدعى إلى التأكيد ، هذا إضافة إلى أن النداء من رفع الصوت ما يدعو إلى المبالغة. فناسب التوكيد في آية آل عمران. والأمر الآخر أنه في آية آل عمران ذكروا ذلك توسلًا وطلبًا لمغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم وحسن الخاتمة وأمور أخرى ذكروها في قوله: ﴿وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ﴾ ، والداعي ينبغي أن يتوسل ويتضرع ويؤكد ذلك ، فناسب التأكيد. ولم يرد مثل ذلك في آيتي الأحقاف وسورة الجن. فناسب كل تعبير موضعه. ﴿ فَ‍َٔامَنَّاۚ ﴾ عطف بالفاء للدلالة على سرعة استجابتهم ، وهو ((مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان عن السماع من غير مهلة)). ﴿ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّ‍َٔاتِنَا ﴾ ذلك أن الإيمان مدعاة إلى مغفرة الذنوب ؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله وأما من لم يؤمن فلا مغفرة له ولا تكفير. وقيل فيما قيل: إن المراد من الذنوب ما تقدم من المعاصي ، ومن السيئات ما تأخر منها جاء في (نظم الدرر) لللبقاعي في قوله: ﴿ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ ((أي: التي أسلفناها قبل الإيمان ، بأن تقبل منا الإيمان فلا تزيغ قلوبنا ، فيكون جابّاً لما قبله عندك كما كانت جابّاً في ظاهر الشرع. وكذا ما فرط منا بعد الإيمان ولو كان بعد توبة ، وإليه الإشارة بقوله:﴿وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّ‍َٔاتِنَا﴾ أي: بأن توفقنا بعد تشريفك لنا بالإيمان لاجتناب الكبائر بفعل الطاعات المكفرة للصغائر)). والأكثرون على أن الذنوب هي الكبائر ، والسيئات هي الصغائر ، ويؤيد ذلك قوله: ﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ ﴾ [النساء: 31] فأفرد السيئات عن الكبائر. لقد ذكر في الآية مع الذنوب المغفرة ، ومع السيئات التكفير ؛ ذلك أن ﴿غفر﴾ معناه: ستر وغطى ، وكل شيء سترته فقد غفرته. ومنه ﴿المِغفر﴾ وهو زرد من الحديد يكون تحت بيضة الحديد على الرأس ؛ لأنه يغطي ما تحته. وأما ﴿كفر﴾ فهو من الستر أيضًا والكفر في اللغة: التغطية ، غير أنه لا يرقى إلى صلابة المغفر وشدته وقوته فـ ((الكافر: الزّرّاع لستره البذر بالتراب ، والكفار: الزُّرّاع ، والكافر: الليل ، والكافر والكفر: الظلمة ، لأنها تستر ما تحته ، والكفر: ظلمة الليل)). فلما كان الذنب أعظم وأثره أكبر وعقوبته أشد ، استعملت معه المغفرة ؛ لأن المغفر يقي ما تحته ويحميه. ولما كانت السيئة من الصغائر ؛ استعمل لها ما هو أخف ، فالكافر: الليل ، والكافر: الظلمة. والليل والظلمة يحجبان الرؤية ، ولكنهما لا يحميان من السهام والسلاح أو الضرب. وكذلك إذا كان بمعنى (كفر البذرة) أي: غطاها بالتراب ، فإن التراب يكون قليلًا فوقها ، وهو لا يحميها إذا أرادها أحد بسوء. فلما كانت السيئة أخف استعمل منها ما هو أخف في التغطية. وقدم مغفرة الذنوب على تكفير السيئات لأنها أعظم ، ولأن الإسلام يجبّها ، وقدمهما على التوفي ليموتوا مغفورًا لهم فلا يصيبهم عذاب القبر. ثم سألوه صحبة الأبرار وذلك قوله:﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ ﴾ ﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ ﴾ ((مخصوصين بصحبتهم ، معدودين في جملتهم)). فهم بدعائهم هذا سألوه حسن الخاتمة وصحبة الصالحين ، كما قال تعالى:﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا٦٩﴾ [النساء: 69] قد تقول: لقد قال هنا: ﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ ﴾ ، وقال في آية أخرى من السورة: ﴿ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ١٤٧﴾ [آل عمران: 147] فقال في الآية السابقة: ﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ ﴾ وقال في هذه الآية: ﴿ وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ﴾ فاختلفت الخاتمتان ، فما السبب؟ فنقول: إن سياق كل من الآيتين يوضح ذلك ، فإنه قال في سياق الآية التي ذكرناها آنفا:﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ١٤٦ وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ١٤٧﴾ [آل عمران: 146-147] فالسياق كما هو بيّن في الجهاد وساحة القتال ، فسؤال التثبيت والنصر هو المناسب ، ولا يناسب طلب الوفاة. فالذين في ساحة القتال يسألون التثبيت والنصر ، وهذا هو المناسب، فكانت كل خاتمة أنسب بسياقها. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 40: 47)

ﵟ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﵞ سورة آل عمران - 193


Icon