الوقفات التدبرية

﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا...

﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ١٩٤﴾ [آل عمران: 194] * * * أي: آتنا ما وعدتنا ، وهو الوعد الذي ذكرته على لسان رسلك للمصدقين بهم ، فنحن آمنا بك وصدّقنا رسلك. والظاهر – والله أعلم – أن الوعد يشمل ما وعد المؤمنين من النصر في الدنيا ، وما وعدهم من حسن ثواب الآخرة. وقوله: ﴿ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ﴾ يعني: لا تفضحنا بسوء ما عملناه إن كنا أذنبنا ، فاستر ذلك علينا يا ربنا. جاء في (الكشاف): (( الموعود هو الثواب ، وقيل: النصرة على الأعداء)). وجاء في (روح المعاني ): ((وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ﴾ ؛ لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء؛ لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل. وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا ، فإن عدم الإغناء عليه ظاهر ، بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة ؛ إذ مآل الأول لا تخزنا في الدنيا بغلبة العدو علينا. فكأنهم قالوا: لا تخزنا في الدنيا ، ولا تخزنا في الآخرة ... وترك العطف في هذه الأدعية المفتتحة بالنداء بعنوان الربوبية للإيذان باستقلال المطالب وعلو شأنها)). وجاء في (التحرير والتنوير) أنه ((ثواب الآخرة وثواب الدنيا لقوله تعالى:﴿فَ‍َٔاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ ٱلۡأٓخِرَةِۗ﴾ )). وهو الراجح فيما أحسب. قد تقول: لقد قال في هذه السورة في موضع سابق:﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ٩﴾ [آل عمران: 9] فقال بعد الخطاب:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ﴾. بإسناد ذلك إلى لفظ الجلالة:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ﴾. وقال في هذه الآية: ﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ﴾ بالإسناد إلى ضمير المخاطب ﴿ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ﴾. فما الفرق؟ والجواب أن الظاهر من تعبير:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ﴾ أن هذا كلام الله سبحانه ، وليس كلام الراسخين ، جاء في (البحر المحيط): ((ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين. قال الزمخشري: معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك: إن الجواد لا يخيب سائله)). وجاء في (روح المعاني): (( جوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين. قال السفاقسي: وهو الظاهر)). وجوز أن يكون ذلك من كلامهم على الالتفات ((للإشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشئ من ذكر اليوم المهيب ... وهذا بخلاف ما في آخر السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الإنعام)). والفرق بين الموطنين أن الراسخين في العلم لم يشيروا إلي موعد وعدهم إياه، ولم يطلبوا إلا الهداية وطلب الرحمة وعدم زيغ القلوب فقالو:﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ٨﴾ ثم ذكروا جمع الناس ليوم لا ريب فيه فقالو:﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ﴾. وقوله:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ﴾ يعني: جمع الناس لذلك اليوم. وأما الآية الأخرى فهي في سياق جملة من الأدعية ، ومن ذلك قولهم:﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ﴾. فهم طلبوا أن يؤتيهم ما وعدهم على ألسنة رسلهم في الدنيا والآخرة ، فلما سألوه إنجاز ما وعدهم قالوا:﴿إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ﴾ فناسب ذلك تذييل كلامهم بما قالوا توسلًا لإنجاز ما وعدهم إياه ربهم. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 47: 50)

ﵟ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﵞ سورة آل عمران - 194


Icon