الوقفات التدبرية

﴿ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ...

﴿ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّ‍َٔاتِهِمۡ﴾ [آل عمران: 195] * * * لقد رتب هذه الأمور بحسب الشدة. فذكر الهجرة ، والهجرة قد تكون اختيارًا ، وقد تكون اضطرارًا. ثم ذكر الذين أخرجوا من ديارهم ، وهو أشد مما قبله ، فإنهم أخرجوا منها إخراجًا. ثم ذكر الإيذاء في سبيل الله ، وهو أشد مما قبله. ثم ذكر القتال ، وهو أشد مما قبله ، فإن الإيذاء قد لا يؤدي إلى القتال. ثم ذكر بعد ذلك القتل ، وهو أشد من كل ما سبق. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّ‍َٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾. قدم تكفير السيئات على دخول الجنات؛ لأن دخول الجنات بعد تكفير السيئات ، فقدم ما هو أسبق. لقد أكد تكفير السيئات وإدخال الجنات بنون التوكيد الثقيلة ، وقال في أكثر من موضع:﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ ﴾ [النساء: 57 - 122]. والسين ونون التوكيد كلتاهما تفيد الاستقبال ، فما سبب اختيار كل تعبير؟ والجواب أن السياق يوضح سبب ذلك. فإنه يؤكد بالنون إذا كان العمل ثقيلًا شاقًا ، وإن لم يكن السياق كذلك جاء بالسين. فقد ذكر ههنا الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا ، وكل ذلك من المشاق ، فأكد بالنون. ونحو ذلك قوله تعالى:﴿۞وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ ﴾ [المائدة: 12]. فقد ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاء والإيمان برسل الله ومساندتهم وتقويتهم وإقراض الله قرضًا حسنًا. وفيها شيء من المشاق ، وخصوصًا تقوية الرسل ومساندتهم ، وذلك قوله سبحانه:﴿وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ﴾ فقد يقتضي ذلك مواجهة من لم يؤمن. ونحو ذلك قوله سبحانه:﴿وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوٓاْ أَوۡ مَاتُواْ لَيَرۡزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ٥٨ لَيُدۡخِلَنَّهُم مُّدۡخَلٗا يَرۡضَوۡنَهُۥۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٞ٥٩﴾ [الحج: 58-59] فقد ذكر الهجرة والقتل والموت، ولا تخفى مشقة ذلك. أما ما جاء بالسين فليس السياق في نحو ذلك. قال تعالى:﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا٥٧﴾ [النساء: 57] فليست هذه في سياق الجهاد والفتنة وما إلى ذلك ، حتى إنه لم يفصل في الإيمان والعمل الصالح كما فصل في آية المائدة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها إضافة إلى الإيمان. ونحو ذلك قوله سبحانه:﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا١٢٢﴾ [النساء: 122]. فليست الآية في سياق مشاف الأعمال وثقيلها. فلما كانت الآيات في سياق مشاق الأعمال وثقيلها أكد بالنون الثقيلة ، ولما لم تكن كذلك لم يأت بها والله أعلم. ﴿وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَاب﴾. لم يقل: (وعند الله الثواب الحسن) ؛ لأن الكلام على الله ودعائه وتنزيهه وأنه استجاب لهم ووعدهم بأنه يكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات ، ثم قال ﴿ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ﴾ فناسب تقديمه والإخبار عنهم بأنه عنده حسن الثواب. كما لم يقل: (والله عنده الثواب الحسن) بوصف الثواب بالصفة المشبهة ، وإنما قال : ﴿وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَاب﴾ فجاء بـ ﴿الحسن﴾ مصدرًا ، مبالغة في وصفه بالحسن ، أي: هو الحسن بعينه. وقدم الخبر للحصر ، فليس عند غيره ثواب أصلًا ، وإنما هو عنده حصرًا ، فإذا كان عنده الحُسن فكيف يكون حسن عند غيره؟ وكيف يكون عند غيره نصيب منه؟ قم انظر من ناحية أخرى كيف قابل في التعبير الآية. فإن قوله:﴿وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ﴾ قابله بقوله:﴿وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّٰتٖ﴾ فالإخراج مقابل الإدخال. و ﴿أُخۡرِجُواْ﴾ مبني للمجهول ، و(أدخلنهم) مبني للفاعل ، وهو مسند إلى رب العزة. و﴿الديار﴾ التي أخرجوا منها تقابل ﴿الجنات﴾ التي أدخلهم ربهم فيها. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 53: 56)

ﵟ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﵞ سورة آل عمران - 195


Icon