الوقفات التدبرية

﴿لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي...

﴿لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَارِ١٩٨﴾ [آل عمران: 198] * * * لقد أثير سؤال في هذه الآية، وقوله سبحانه في الآية ذات الرقم (195) ، وهي قوله: ﴿فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّ‍َٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ . . . ﴾ وهو أنه قال في هذه الآية:﴿خَٰلِدِينَ فِيهَا﴾ ولم يقل في الآية السابقة ذلك ، فلم ذاك؟ وظاهر أن ثمة أكثر من اختلاف بين هاتين الآيتين: 1- فقد قال في الآية (195):﴿ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّٰتٖ ﴾. وقال في هذه الآية:﴿ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ ﴾. 2- وقال في الآية (198):﴿خَٰلِدِينَ فِيهَا﴾. ولم يقل في الآية (195) ذلك. 3- وقال في الآية (195): ﴿ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ﴾. وقال في الآية (198):﴿نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ﴾. ومن النظر في الآيتين يتضح سبب الاختلاف بينهما. 1- ذلك أن المذكورين في الآية (198) أعم وأشمل وأعظم ممن ذكر في الآية (195). فإن الأولين ، وهم الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ومن ذكرهم بعدهم ، إنما هم من المتقين ، بدليل قوله تعالى:﴿ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ١٧٧﴾ [البقرة: 177] فإن الموصوفين بالآية (195) إنما هم قسم ممن ذكر في الآية (198). قال تعالى:﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ١٧٧﴾ جاء في (تفسير الرازي) في قوله:﴿لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ﴾ أنه (( يتناول جميع الطاعات؛ لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات وعن ترك المأمورات)). فلم ذكر أن المتقين خالدون فيها دخل فيهم أولئك المذكورون في الآية (195). ولما كان المذكورون في الآية (198) أعم وأشمل، ناسب ذكر الخلود فيما هو أعم. ثم إنه لما ذكر تقلب الذين كفروا في البلاد وقال إنه متاع قليل، أي: هو زائل وهم زائلون ، ناسب أن يذكر أن الذين اتقوا ربهم خالدون في الجنة وليس المتاع قليلًا. 2- ذكر في الآية (195) أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وذكر فيمن هم أعم واشمل ، وهم الذين اتقوا ربهم أن لهم جنات تجرب من تحتها الأنهار. ولا شك أن هؤلاء أعلى ؛ فإن قوله:﴿لَهُمۡ جَنَّٰتٞ﴾ يفيد التمليك. أما الإدخال فلا يعني التمليك بالضرورة، فإنك لو أدخلت شخصًا في قاعة أو قصر ، لا يعني أنك ملكته إياه ، بخلاف ما لو قلت: إنه لك. فناسب الجزاء العمل. 3- وقال في الآية (195): ﴿ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ﴾. والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات)). 4- قال تعالى:﴿وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَار﴾ ولم يقل: (وما عند الله خير لهم) ليبين أن الذين اتقوا إنما هم من الأبرار. قال تعالى: وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ ﴾ [البقرة: 189] وقال:﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ . . . أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ١٧٧﴾ [البقرة: 177] (( والتعبير عنهم بالأبرار ، ووضع الظاهر موضع المضمر ، كما قيل؛ للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر ، كما أنها من قبيل التقوى)). ثم إن قوله: ﴿وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَار﴾ مناسب لدعاء المؤمنين:﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ﴾ وقد ذكر طرفًا من صفاتهم ، وهو الإيمان والتفكر في خلق السموات والأرض وذكر الله سبحانه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 58: 62)

ﵟ لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﵞ سورة آل عمران - 198


Icon