الوقفات التدبرية

﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ...

﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ خَٰشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشۡتَرُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ١٩٩﴾ [آل عمران: 199] * * * هذه الآية مناسبة لما قبل هذه الآيات ، وهو قوله: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ١٨٧ لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ١٨٨﴾ [آل عمران: 187-188] فذكر الذين أوتوا الكتاب وأخذه الميثاق عليهم ليبينه للناس فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا. ثم ذكر ههنا أن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إلى الرسول وما أنزل إليهم لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا. فأولئك اشتروا به ثمنًا قليلًا ، وهؤلاء لا يشترون به ثمنًا قليلًا. وذكر أن أولئك لهم عذاب أليم. وأما هؤلاء فلهم أجرهم عند ربهم. وهي مناسبة أيضًا لما ورد في أول السورة من إنزال القرآن والتوراة والإنجيل، وهو قوله سبحانه:﴿نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ٣ مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ﴾. وقد ذكر في هذه الآية ، أعني الآية ذات الرقم (199)، أن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وهي الكتب المذكورة في أول السورة. فناسب الآية ما تقدمها وما ورد في أول السورة. لقد قال ههنا: ﴿ وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ (199)﴾. بالتوكيد بـ ﴿إن﴾ واللام. وقال في موضع آخر:﴿۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ﴾ [آل عمران: 75] من غير توكيد ، وذلك لأن هذا الموطن أدعى إلى التوكيد، ذلك أن المؤتمنين في خلق الله كثير . ولا شك أن من أهل الكتاب من يؤدي الأمانة ، ولكن أن يغير الذي من أهل الكتاب دينه ويؤمن بما أنزل إلى الرسول خاشعًا لله، فهذا قليل نادر . وهو الذي به حاجة إلى توكيد أكثر من الحالة الأخرى. فأكد ما هو أولى بالتوكيد. أكد سرعة الحساب بـ﴿إن﴾. وفي مواطن لا يؤكد ذلك ، وإنما يقول:﴿وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ﴾ أو نحوه. وهناك أمور تقتضي التوكيد، منها: أن يكون الخلق كثيرين، وهذا في العادة يقتضي طول الحساب، ولئلا يظن أن ذلك يقتضي طول مدة بالنسبة إلى الله ؛ يؤكد سرعة الحساب. أو أن الحساب قريب عاجل ، فيؤكد لئلا يظن أنه سيؤخره. أو أنه نافذ علمه في الحساب ، وفي كل شيء لا يندّ عنه شيء ، فإن ذلك يؤكد سرعة الحساب، بخلاف من لا علم له. جاء في (نظام الدرر) للبقاعي: ((ولما كانت العادة قاضية بأن كثرة الخلق سبب لطول الحساب ، وذلك سبب لطول الانتظار ... فأزال هذا التوهم بأن أمره تعالى على غير ذلك ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن بقوله:﴿إِنَّ ٱللَّهَ﴾ أي: بما له من الجلال والعظمة والكمال ﴿سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ﴾. وجاء في (الكشاف) في قوله:﴿إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَاب﴾ ((لنفوذ علمه في كل شيء ، فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر. ويجوز أن يراد: إنما توعدون لآت قريب بعد ذكر الموعد)). وجاء في (روح المعاني): ((﴿إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَاب﴾ إما كناية عن كمال علمه تعالى بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي ... وإما كناية عن قرب الأجر الموعود؛ فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء)). وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى:﴿لِيَجۡزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ٥١﴾ [إبراهيم: 51] وهذا يشمل جميع النفوس على الإطلاق ﴿كل نفس﴾ فاقتضى توكيد سرعة الحساب. وقال:﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ١٧﴾ [غافر: 17]. وهذا نظير الآية السابقة ، فذكر كل النفوس ، فاقضى التوكيد. في حين قال:﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ٣٩﴾ [النور: 39] وهذا شخص واحد جرى نحو الراب فمات ظمآن ، فلا يستدعي توكيد سرعة الحساب. وقال: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ٤١﴾ [الرعد: 41] وهو في هذه الآية لم يذكر أناسًا يحاسبهم ، وإنما هو من باب ذكر صفته سبحانه. وقال:﴿ وَمَن يَكۡفُرۡ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ١٩﴾ [آل عمران: 19] والكفرة كثيرون ، فناسب توكيد سرعة الحساب. وقال:﴿يَسۡ‍َٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ٤﴾ [المائدة: 4]. وفي هذه الآية أمران ، كل منهما يقتضى التوكيد: الأمر الأول: أنه حكم لعموم المسلمين ، وهم كثرة. والأمر الآخر: أنه أمرهم بالتقوى والتقوى مما يقتضي سرعة توفية الأجر في الدنيا قبل الآخرة. قال تعالى:﴿ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ ﴾ [الطلاق: 2-3]. وأما بالنسبة للمذكورين في آية آل عمران التي نحن بصدد بيانها، فإنه أكد سرعة الحساب ليدل على أنه سيعجل لهم أجرهم في الدنيا، علاوة على ما أعد لهم في الآخرة من الأجر ، وخاصة ذكر أن هؤلاء لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا. ومن يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا إنما يطلب عاجل الدنيا، فقال ربنا إنه سيعجل للذين لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا أجرهم في الدنيا، علاوة على ما في الآخرة ، فالتوكيد مناسب من أكثر من وجه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 62: 67)

ﵟ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﵞ سورة آل عمران - 199


Icon